يروي الفيلسوف الصيني «لي هنز» هذه الأسطورة المملوءة بالحكمة:

فوق تلال غابة نائية، كان يعيش رجل شيخ مع ابن له وجواد، ففي ذات صباح هرب الجواد واختفى، فأقبل الجيران على الشيخ يعزّونه في نكبته بفقد جواده، فقال لهم الشيخ:

- ومن أدراكم أنها نكبة؟

فصُعقوا، وانصرفوا واجمين. ولم تمض أيام حتى عاد الجواد إلى صاحبه من تلقاء نفسه، لا وحده بل مصطحبا معه عديدا من الخيول البرية، فعاد الجيران إلى الشيخ فرحين مهنئين بهذا الغنم الوفير، وهذا الحظ السعيد، فنظر إليهم الشيخ بهدوء وقال:

- ومن أدراكم أنه حظ سعيد؟

فسكتوا مذهولين، وانصرفوا متحيّرين. ومرت الأيام، وجعل ابن الشيخ يروّض الخيول البرية، فامتطى منها جوادا عنيدا، فسقط من فوق صهوته إلى الأرض فكُسرت ساقه، فرجع الجيران مرة أخرى إلى الشيخ محزونين، يبثّونه الألم لما وقع لولده، ويعزونه في هذا الحظ العاثر.

فقال لهم الشيخ برفق:

- ومن أدراكم أنه حظ عاثر؟

فانصرفوا صامتين. ومضى العام، وإذا حربٌ تقوم، وجُنّد الشباب، وأُرسلوا الى الميدان، فلقي أكثرهم الحتف إلا ابن الشيخ. فإن العرج الذي بقدمه أعفاه من الذهاب إلى الحرب، وأنقذه من ملاقاة الموت!.

إلى هنا تنتهي قصة الفيلسوف الصيني، ولو أنه استرسل فيها لما فرغنا من تعاقب السعد والنحس على الحادث الواحد. وذلك أن لكل شيء نهاره وليله، يدوران حوله بغير انقطاع، ولكن الإنسان في نظرته القصيرة وذاكرته الضيقة لا يرى الحادث إلا في حلقاته المنفصلة، وأجزائه المتقطعة، ونتائجة المؤقتة، ومؤثراته المفاجئة. فعينه لا تستطيع أن تشمله في جملته، لأن جملته ممتدة في الغد، وعين الإنسان لا ترى الغيب.

ولو استطاع إنسان أن يشمل بنظرته الأمس واليوم والغد، وأن يتبع حادثا واحدا، أو رجلا بالذات، لرأى العجب. فهذا الغني الذي يملك الملايين، سيرى أمواله قد بددها وريث. وهذا الوريث سيكون له أولاد فقراء، ومن هؤلاء الفقراء يخرج واحد ينشئ ثروة، وهكذا دواليك. يأتي المال من العدم، ويذهب المال في العدم، ويولد من السعد نحس، ومن النحس سعد. ساقية لا تكف عن الدوران، ولا تقف طول الزمان. ليس هناك في حقيقة الأمر حظ زاهر ولا عاثر، لأن الساقية الدوارة لا تبقي أحدا في موضعه، ولا شيئا في مكانه. إن ما نسميه «الحظ» ليس إلا وقوف نظرنا المحدود على وضع من الأوضاع في وقت من الأوقات.

وإن فرحنا أو بكاءنا لهذا الحظ ليس سوى قلة صبرنا على انتظار البقية. شأننا في ذلك شأن المشاهد لقصة تمثيلية. إنه يضحك أو يبكي لكل ما يصيب البطل دون أن ينتظر ختام الرواية. لعل أداة الشعور والإدراك فينا قد جعلت على هذا التركيب المناسب لحياتنا القصيرة، فنحن نأخذ كل حادث يمر على أنه البداية والنهاية، لا أنه الحلقة في سلسلة طويلة.

إن الإنسان الذي أُعطي الحكمة، ليس في حقيقة الأمر إلا ذلك الذي أعطي العين التي ترى الأشياء في جملتها لا في جزء منها، وفي تعاقبها لا في وقوفها، تلك العين التي تبصر الساقية في دورانها، وهذا ليس بالأمر الهين، إنه للبشر من أصعب الأمور. من أجل هذا كانت الحكمة في الأرض نادرة، لأن الحكمة وحدها هي التي ترى الساقية وهي تدور!.

*توفيق الحكيم

*1949

* كاتب وأديب مصري «1898 - 1987»