في العزلة المفروضة.. يعاني البعض من شح شديد في موارد الابتكار، وهذا يسبب لديهم نقصا في تنوع مصادر تغذية الروح، ما يؤدي إلى مجاعة رضا يحتاجون معها إلى ربط حزام الصبر على بطن الوقت لإسكات صرخات الملل الحادة.

ليس من الحكمة أن نجعل التأفف والضجر يستهلك أعصابنا حد الاحتراق بوقود السخط الرديء، ففي جعبة العقل كثير من مبتكرات الابتداع المستمد من مصادر الهوايات والشغف والرغبات والمهارات الفطرية الخاصة بكل منا.

عن تجربتي الشخصية في عزلتي المفروضة، اشتريت الحرف والقلم بأربعة عشر يوما دفعتها من محفظة الزمن.

هنا بدأت أستعيد لياقة قلمي الفلسفي بعد أن أفقدته إياها مقالات أحداث الساعة، وتغريدات الحدث الراهن. شبح العزلة الكئيب الموحش أصبح شعور أنس صاخب ملأ روحي انشراحا وبهجة عندما تصالحت مع حرفي الذي طال هجري له. تجربتي مع القلم شجعتني على البحث عن المزيد من هوايات قديمة سقطت مني سهوا وأنا أركض بسرعة على إسفلت السنوات بظروفها وأحداثها الساخنة.

محفظتي الزمنية ما زالت عامرة بوقت قررت أن أنفقه إلى آخر دقيقة عزل في استعادة ذلك الشغف القديم الذي بهتت ملامحه.

الكتاب.. صديقي الحكيم الذي كان توأم روحي ورفيق مراهقتي وعمري كله، عشر سنوات مرت كلمح البصر، قصرت خلالها بحقه كثيراً وأهملته في زحمة الحياة.. لم نعد نلتقي إلا كأغراب تتصافح أكفهم بلا حرارة لقاء تذكر.

ربما يستغرب القارئ ردة فعلي الغريبة تجاه مجموعة كتب أحضرتها معي من باب إرضاء ضميري الأدبي دون رغبة أكيدة في قراءتها!.

حضنتها بقوة.. قبلتها وأنا أبكي شوقا، وكأني التقيتها بعد غياب طويل.. اعتذرت منها بشدة وكأنها بشر حي، وأنا أحاول تبرير تجاهلي لها كل تلك السنين.

لم أجد تفسيراً لهذا التصرف الغريب.. هل هي هلاوس العزلة.. أم هي فرحة حقيقية بعودة كتابي الغائب إلى حضن شغفي القديم!

كل ما أعرفه أني ممتلئة بالسعادة، وهذا يكفي لأعيد أواصر الود من جديد..أصعب ما في العزلة أن ننحر روح الوقت بسكين الضجر والسخط، وأمتع ما فيها.. العودة إلى ذواتنا واكتشافها من جديد، نفتش داخل أنفسنا عن حلم ضائع، أو هواية منسية، أو شغف تاه منا في لحظة غفلة.

وأنفع ما فيها، أنها لمن يعي، استراحة محارب..الفطن منا من يخرج منها بروح متجددة ورغبة بعطاء غزير.

العزلة المفروضة.. قدر جميل من أقدار الله التي إن رضينا بها حامدين شاكرين.. أثابنا عليها الكريم بخير عظيم، ﴿فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً﴾