أحد أكثر النقاشات الجارية هو تحليلات مستقبل العالم لما بعد أزمة كورونا أو «كوفيد 19»، غير أن الحديث هنا عن السعودية، وتحديدا عن فرصها لما بعد الأزمة لا التحديات الراهنة.

خدمت الأزمة بلادنا عبر تقديم نموذج عالمي جديد في حقوق الإنسان، وهو نموذج إثبات فاعلية الدولة الأبوية الراعية لمصالح مواطنيها وسكانها، والتي قدمت مصالحهم على الخسائر الاقتصادية، واستمرت في ضمان رفاهية شعبها والحفاظ على أمنه، مع تكاتف هذا الشعب مع قيادته ومؤسساته وقواه الأمنية، وهو ما يترجم المبدأ الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء».

بلادنا تستمر مع الأزمة في شراء الشركات الحيوية لمشاريع الرؤية كما كانت تفعل من قبل، مثل الشركات النفطية والسفن السياحية التي تخدم مشروع تطوير خدماتنا اللوجستية، كما أن البنية التحتية للاتصالات أثبتت تفوقها واستمرارية نموها، وأسهمت الأزمة في الدفع من عجلة مشروع التحول الرقمي، خاصة في التجارة الإلكترونية والدفع الإلكتروني.

على صعيد مهم، فقد انفتح الباب لأهمية التعليم عن بعد، ولا أتحدث على صعيد التعليم المدرسي التقليدي، ولكن على صعيد الأعمال، إذ إن الطرق التقليدية السابقة كانت شديدة التكلفة، وأقل في الجودة والفاعلية، وفي حصول الجميع على فرص التعلم، وهو باب كان يجب أن يفتح بشكل مبكر قبل الأزمة، كما أن العمل عن بعد بدوره فتح الباب واسعا لدراسة فاعليته وطرق تنظيمه، ويلاحظ في بعض الحالات أن العمل من المنزل رفع من زيادة الإنتاج، بسبب غياب المقاطعات وقلة الاجتماعات غير المجدية، وزيادة ساعات العمل بدافع ذاتي، وسهولة تنفيذ بعض الأعمال عبر الاجتماعات عن بعد، وبشكل عام فذلك سينعكس على تقليص الجهود البشرية وساعات العمل.

غير أن ذلك قد يؤدي إلى سلبيات مثل تقليص استخدام الطاقة وانخفاض الحاجة لعقارات الأعمال، إضافة إلى عامل تقليص الحاجة للموظفين، غير أن هذا العامل يمكن تعويضه عبر سياسات حماية الدولة لمعدلات التوظيف والتوطين، وتغيير عملاء الطاقة، وزيادة المعروض العقاري في القطاع السكني.

حظر التجول بدوره طوّر -تحت التحدي الجديد- إمكانات القطاعات الأمنية في التعامل مع الأزمات الطارئة، وطرق السيطرة على أعمال الشغب المحتملة، وهو ما قد يمكّن تلك القطاعات من تطبيق حظر تجول في أي منطقة عند الحاجة، مما يرفع من قدراتها الأمنية، إضافة إلى زيادة الالتفات إلى التكدسات العمالية غير النظامية، سواء في المساكن أو في طرق عملهم وحياتهم ومدى تأثيرهم.

تكاتف المواطنين -أيضا- زاد من رفع سقف التكتل خلف مؤسسات الدولة، وأكد الوعي الشعبي تجاه الأزمات، ورغم عدم التزام البعض بإجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي، إلا أن الأزمة ما زالت تطور -أيضا- من تعزيز أهمية الوعي الشعبي، كما أن الصدمة النفسية لهذه الأزمة رفعت من إحساس الشعور بالآخرين، وهو ما سينعكس على ارتفاع الأعمال الخيرية والإنسانية، والشعور أكثر بأن البشرية في مركب واحد، مما يزيد الحاجة إلى التكاتف والتفاهم العالمي.

القطاع الصحي هو أكثر القطاعات استفادة من هذه الأزمة، مع قطاعات التحول الرقمي، فهو سيزداد فاعلية ونموا، وسيزداد تشبيكا مع التحول الرقمي لتقديم الخدمات عن بعد، وسيرفع من سقف مبدأه الأساسي باعتبار الصحة هي الوقاية لا العلاج، لذلك سيسهل على القطاع الصحي تحقيق رؤيته الوقائية عبر تغير السلوك الاجتماعي الذي أصبح أكثر اهتماما بصحته.

رغم الخسائر والانكماش الاقتصادي العالمي بعد الأزمة، غير أن الطبيعة البشرية متحركة إلى الأمام، فهناك دول قد تتهاوى أكثر، خاصة تلك القائمة على عمال المصانع، والتي قد يقل إنتاجها وتعاني من تعويضه السريع، وقد تخسر فرصها وتتوفر لها البدائل، وهو ما يعتمد على فاعلية إجراءات التعامل مع الأزمات والمتغيرات، كحالة الاقتصاد الصيني القادرة على العودة السريعة، كما أن السعودية تتميز بمستوى أعلى من القدرة على العودة، فاقتصادها النفطي المتين، ونجاحها في تنويع مصادر الدخل، وسيولتها النقدية، ستجعلها قادرة على تجاوز الأزمة بشكل سريع والتكيف معها، مهما كانت خسائرها، وتحمل أعبائها لفترة طويلة، ثم الانطلاق من جديد بشكل أقوى في مشاريعها، رغم التأخير النسبي الذي قد يحدث في مواعيد بعض المشاريع.

أما أمريكا، فهي بطبيعتها قادرة على التعامل مع التحديات، وقد واجهت أزمات اقتصادية تاريخية كبيرة، وتمكنت من تجاوزها وأصبحت أقوى، لذلك حسب التحليل الاجتماعي الاقتصادي، الدول هي التي ستحدد قرارها في الانطلاق أو التصرف بشكل خاطئ في التعامل مع الأزمة.

في الحالات كافة، يجب أن ننظر إلى ما بعد الأزمة، بعد أن نتعامل معها بإيجابية، وذلك لاقتناص الفرص والاستمرار في التقدم في تعاملنا مع التحديات العالمية.