وثمة أسباب موضوعية أيضا وراء التوسل بالخرافة، فإذا استبعدنا الخرافة النمطية، إذا جاز التعبير، والتي لمّا تزل تصاحب بعض الأديان والمذاهب والروحانيات، مما يُؤدى على سبيل العبادة، فإننا سنجد أن الإنسان يتوسل الخرافة في ظل صعوبة اعتماده على البديل، وهو هنا العلم التطبيقي الذي يعمل وفق مقتضيات، وسنن، وقوانين، تتميز بأنها، إضافة إلى عدم يقينية معطياتها، كلازمة من لوازم العلم الحديث، فإن انتظار نتائجه أيضا ممل ومربك للإنسان، خاصة ذلك الإنسان الذي لم يترب بما فيه الكفاية على التفكير العلمي.
إضافة إلى ذلك، فإن العلم الحديث الذي يقطع تماما مع الخرافة، ويمد بسبب إلى الطبيعة بقوانينها التي لا تتبدل أو تتغير لأجل موت أحد، أو حياته، أو رغباته، لم يبدأ فعليا إلا منذ زمن قريب جدا، يقدر بثلاثمئة سنة تقريبا، وتحديدا مع العالم الإيطالي «جاليليو، توفي عام 1642». أما ما قبله من زمن، وتحديدا منذ ما قبل العصر الجليدي، فكان مرتعا خصبا للخرافة، بغض النظر عن بعض الطفرات «العلمية» القديمة هنا وهناك.
جاء كورونا المستجد حاملا معه قبس إذكاء لهب الخرافة الذي لم يخبُ يوما. ولقد تمثل الإذكاء في عدة وسائل، بدءا من المنامات التي أنعشت سوق المُؤوِّلين، فبدؤوا يؤولونها وفق سيناريوهات رغبوية.
نعم، إن الرغبة، كما قال عالم النفس والطبيب النمساوي (فرويد)، هي الأساس الذي تقوم عليه الأحلام. وهذه الأحلام، كما ينقل عنه عالم الاجتماع العراقي الراحل، د. علي الوردي، في كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة)، لا تُحقِّق جميع الرغبات التي يتمناها الإنسان، بل تحقق تلك الرغبات التي كبتها الإنسان أثناء يقظته، بسبب عدم قدرته على إشباعها لأي سبب. بمعنى أن الأحلام ليست نشاطا مجانيا، بل إنها تمثل حلولا للتوترات النفسية التي لم يسعفها الإرواء الواقعي.
والمشكلة هنا أن تأويل الأحلام لا يجري على أساس علمي، كما يقوم عليه التحليل النفسي الحديث، الذي يمكن أن يقترب من تفسير الأحلام وفق محتواها الباطني، اعتمادا على صورها الظاهرية، وإنما يجري تأويلها تعسفيا، من قبل مؤوِّلين احترفوها كصناعة، لصالح رغبات واقعية غير متحققة، فلقد فسروا بعض أحلام بعض المترددين عليهم هذه الأيام، كالذي رأى السماء حمراء داكنة، ثم فجأة انقلب لونها إلى زرقة صافية، على أنها تبشر بزوال فيروس كورونا قريبا.
وإلى جانب الأحلام التي تحمل معها رغبات الواقع الذي لا يرتفع، هناك أيضا الوصفات العلاجية الشعبية، والخلطات العجيبة التي يُراد لها أن تقضي على فيروس أعجز مختبرات الأدوية واللقاحات، في مختلف دول العالم.
لا بديل، في مكافحة هذه الجائحة ومثيلاتها، عن التوكل على الله تعالى أولا، ثم التسلح بالعلم الحديث، فهو وحده القادر، بعد إرادة الله، على مكافحة هذا الفيروس، كما كافح قبله جوائح أخطر منه بكثير، مثل الطاعون والكوليرا والملاريا والأنفلونزا الإسبانية، وغيرها. أما الاعتماد على الأحلام والوصفات والخلطات الشعبية، فحري بها أن تؤدي إلى مشكلات أخرى، نفسية وعضوية، دون أن تضع خطوة واحدة على طريق مكافحة الأوبئة والأمراض، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ولعل المناسبة تقتضي أن نقول إن الأمر يستدعي إحلال التفكير العلمي ليكون نسقا عاما للتفكير الجمعي. وذلك لا يتأتى إلا بإصلاح منظومة التعليم، فهو وحده القادر على إصلاح خلل التفكير لدى الأفراد والمجتمعات، حيث لا نجد أمة من الأمم ارتقت مرتقى صعبا في التقدم العلمي، إلا وكان التعليم الجيد، الذي يغرف من مقتضيات العصر، عمادها، وفرس رهانها.