من المسلَّم به أن المجتمعات الإنسانية لم تخل يوما من الخرافة، سواء ‏أكان في قديم الزمان، أم في حديثه. والمجتمعات تتفاوت نسبيا في ‏وجود الخرافة، دون أن يكن لأحدها الحق في الزعم بأنه خال منها ‏تماما. أظن أن ثمة رابطا سيكولوجيا بين انتشار الخرافة، أو لنقل: ‏نفوق سوقها، وسوء الأوضاع المحيطة، من هنا، غالبا ما يروج سوق ‏الخرافة في ظل انتشار الجوائح والنكبات وصروف الدهر، وتقلبات ‏الزمان، إذ يتوسل الإنسان عادة بالخرافة لإعطاء نفسه بعض ‏الطمأنينة تجاه ما يعايشه من عدم اليقين، بسبب طوارق الليل والنهار ‏التي تحيط به.‏

وثمة أسباب موضوعية أيضا وراء التوسل بالخرافة، فإذا استبعدنا ‏الخرافة النمطية، إذا جاز التعبير، والتي لمّا تزل تصاحب بعض ‏الأديان والمذاهب والروحانيات، مما يُؤدى على سبيل العبادة، فإننا ‏سنجد أن الإنسان يتوسل الخرافة في ظل صعوبة اعتماده على البديل، ‏وهو هنا العلم التطبيقي الذي يعمل وفق مقتضيات، وسنن، وقوانين، ‏تتميز بأنها، إضافة إلى عدم يقينية معطياتها، كلازمة من لوازم العلم ‏الحديث، فإن انتظار نتائجه أيضا ممل ومربك للإنسان، خاصة ذلك ‏الإنسان الذي لم يترب بما فيه الكفاية على التفكير العلمي. ‏

إضافة إلى ذلك، فإن العلم الحديث الذي يقطع تماما مع الخرافة، ويمد ‏بسبب إلى الطبيعة بقوانينها التي لا تتبدل أو تتغير لأجل موت أحد، ‏أو حياته، أو رغباته، لم يبدأ فعليا إلا منذ زمن قريب جدا، يقدر ‏بثلاثمئة سنة تقريبا، وتحديدا مع العالم الإيطالي «جاليليو، توفي عام ‏‏1642». أما ما قبله من زمن، وتحديدا منذ ما قبل العصر الجليدي، ‏فكان مرتعا خصبا للخرافة، بغض النظر عن بعض الطفرات ‏‏«العلمية» القديمة هنا وهناك.‏

جاء كورونا المستجد حاملا معه قبس إذكاء لهب الخرافة الذي لم ‏يخبُ يوما. ولقد تمثل الإذكاء في عدة وسائل، بدءا من المنامات التي ‏أنعشت سوق المُؤوِّلين، فبدؤوا يؤولونها وفق سيناريوهات رغبوية.‏

نعم، إن الرغبة، كما قال عالم النفس والطبيب النمساوي (فرويد)، ‏هي الأساس الذي تقوم عليه الأحلام. وهذه الأحلام، كما ينقل عنه ‏عالم الاجتماع العراقي الراحل، د. علي الوردي، في كتابه (الأحلام ‏بين العلم والعقيدة)، لا تُحقِّق جميع الرغبات التي يتمناها الإنسان، بل ‏تحقق تلك الرغبات التي كبتها الإنسان أثناء يقظته، بسبب عدم قدرته ‏على إشباعها لأي سبب. بمعنى أن الأحلام ليست نشاطا مجانيا، بل ‏إنها تمثل حلولا للتوترات النفسية التي لم يسعفها الإرواء الواقعي. ‏

والمشكلة هنا أن تأويل الأحلام لا يجري على أساس علمي، كما يقوم ‏عليه التحليل النفسي الحديث، الذي يمكن أن يقترب من تفسير الأحلام ‏وفق محتواها الباطني، اعتمادا على صورها الظاهرية، وإنما يجري ‏تأويلها تعسفيا، من قبل مؤوِّلين احترفوها كصناعة، لصالح رغبات ‏واقعية غير متحققة، فلقد فسروا بعض أحلام بعض المترددين عليهم ‏هذه الأيام، كالذي رأى السماء حمراء داكنة، ثم فجأة انقلب لونها إلى ‏زرقة صافية، على أنها تبشر بزوال فيروس كورونا قريبا.‏

وإلى جانب الأحلام التي تحمل معها رغبات الواقع الذي لا يرتفع، ‏هناك أيضا الوصفات العلاجية الشعبية، والخلطات العجيبة التي يُراد ‏لها أن تقضي على فيروس أعجز مختبرات الأدوية واللقاحات، في ‏مختلف دول العالم.‏

لا بديل، في مكافحة هذه الجائحة ومثيلاتها، عن التوكل على الله تعالى ‏أولا، ثم التسلح بالعلم الحديث، فهو وحده القادر، بعد إرادة الله، على ‏مكافحة هذا الفيروس، كما كافح قبله جوائح أخطر منه بكثير، مثل ‏الطاعون والكوليرا والملاريا والأنفلونزا الإسبانية، وغيرها. أما ‏الاعتماد على الأحلام والوصفات والخلطات الشعبية، فحري بها أن ‏تؤدي إلى مشكلات أخرى، نفسية وعضوية، دون أن تضع خطوة ‏واحدة على طريق مكافحة الأوبئة والأمراض، لأن فاقد الشيء لا ‏يعطيه.‏

ولعل المناسبة تقتضي أن نقول إن الأمر يستدعي إحلال التفكير ‏العلمي ليكون نسقا عاما للتفكير الجمعي. وذلك لا يتأتى إلا بإصلاح ‏منظومة التعليم، فهو وحده القادر على إصلاح خلل التفكير لدى ‏الأفراد والمجتمعات، حيث لا نجد أمة من الأمم ارتقت مرتقى صعبا ‏في التقدم العلمي، إلا وكان التعليم الجيد، الذي يغرف من مقتضيات ‏العصر، عمادها، وفرس رهانها.‏