قد يظن كثير أن من ينفرد بالسيطرة على المؤسسة الدينية في قطر هم الإخوان المسلمون، وهذا خلاف الواقع، فالسلفية في قطر لها حصة كبيرة من إدارة الشؤون الدينية في الإمارة الصغيرة، حيث أقام الاثنان -السلفية والإخوان- حلفًا ومحاصصة في إدارة شؤون الدين، كل في اتجاه على الرغم من التناقضات الكبيرة في التوجهات والأصول المنهجية للفكرين المتنافرين، ولكن سياسة الدويلة في جمع التناقضات استطاعت صنع توليفة منسجمة وليست متجانسة من الاتجاهين المتعاكسين والمتضادين.

السلفية -القائمة على مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- اليوم باتت توجها عاما لا يرتبط ببلد معين، فهو موجود في الخليج، وفي مصر، وفي المغرب العربي، وفي الشرق الإسلامي، خصوصا بعد التطورات المذهلة في السعودية خلال السنوات الأخيرة على مستوى الخطاب الديني الذي بات يسعى نحو مناطق آمنة ومستوعبة لمختلف التوجهات الدينية للوصول إلى إسلام وسطي، يبرز روح الإسلام السمحة، ويحقق رسالته المتسامحة.

غير أن القطريين توجهوا كالعادة عكس الاتجاه السعودي، الرامي إلى تبني إسلام متسامح، يحوي الجميع، ويكافح الإرهاب والتطرف، إذ يقول حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر السابق في ديسمبر 2011 لدى افتتاحه أكبر مساجد الدوحة، والذي أطلق عليه اسم «جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب»: (جدنا المؤسس الشيخ جاسم وهو العالم بالدين والحاكم في الوقت نفسه كان ممن تلقفوا دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب وتبنوها ونشروها في بلادنا وخارجها في أنحاء العالم الإسلامي، وحمل على عاتقه مسؤولية نشر كتب الدعوة الوهابية وغيرها من الكتب وطباعتها في الهند من أجل التفقيه بدين الله).

ما قام به خليفة بن حمد لا يخرج عن اعتباره خطوة للاستحواذ على الوهابية بعد اكتمال المرحلة الإخوانية في قطر، فتسمية حمد بن خليفة لأكبر جامع في قطر باسم «جامع الشيخ محمد بن عبدالوهاب» فجر حينها كثيرا من التساؤلات، وعلى رأس هذه التساؤلات سؤال التوقيت، ولماذا الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وليس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني؟ بل إن بعض المراقبين أطلقوا عليه مسجد «الضرار»، في إشارة واضحة إلى محاولة اختطاف الوهابية، أو حيازتها، بعد التطورات الكبيرة في الخطاب الديني السعودي الذي ذكرناه آنفا.

فهل تريد السياسة القطرية احتلال مكان تركه السعوديون، لاستثماره في جولة إرهاب وتطرف أخرى تهز به العالم، كما فعلت سابقا؟

النزوع القطري للسلفية بشكل مؤسسي جاء في عهد الشيخ عبدالله بن جاسم الحاكم الثالث لقطر، أما الجد الذي ذكره حمد بن خليفة، وهو جاسم بن محمد بن ثاني، فقد كان -كما يذكر أمين الريحاني- حنبليا متصلبا، وهو من نقل القضاء والفتيا من المذهب المالكي المنتشر في الخليج، إلى المذهب الحنبلي، ومن هنا بدأت سلفية قطر تحديدا.

عبدالله بن جاسم طلب من الملك عبدالعزيز انتداب الشيخ محمد بن مانع في عام 1354 ليكون مستشاره للشؤون الدينية، فعمل المانع على إعادة ترتيب التدريس الديني ومناهجه، وبعد المانع جاء الشيخ عبدالله بن زيد بن محمود في عام 1359 بعد أن طلبه الشيخ علي بن عبدالله من الملك عبدالعزيز، ومنذ ذلك الوقت وحتى وفاته وهو مرجع الفُتيا في دولة قطر، كل هذا أسهم في ترسيخ الشخصية السلفية في المؤسسة الدينية الصلبة في قطر، القضاء والفُتيا.

في عام 1996 حدثت انتكاسة طفيفة للسلفية في قطر على مستوى تماهي الدولة مع إطارها العام، وإن كان إطارها المؤسسي لم يمسسه سوء، فبعد وصول حمد بن خليفة إلى كرسي حكم قطر، تصاعد نفوذ الإخوان، خصوصا بعد وفاة الشيخ عبدالله بن زيد بن محمود، هذه الانتكاسة بدأت بالتصاعد حتى عام 2008، حيث بلغت أوجها، حينما جاءت مناكفة الجارة الكبيرة السعودية، ومحاولة إيهام العالم أن منهج السلفية المتبع في السعودية هو سبب الإرهاب والتطرف، مع بقاء المؤسسة الدينية القطرية على المنهج ذاته، غير أن ثمة تحولا طرأ في عام 2011 وقبله بقليل، حيث انقلبت الدوحة إلى محاولة الاستحواذ على السلفية، عبر نشاط كبير في السعي إلى استقطاب الوعاظ السعوديين، حتى أولئك المحسوبين على التيار السروري بحكم أنهم أقرب للسلفية من فصيل الإخوان المسلمين.

أما التوجه الإخواني فقد بدأت بوادره في عام 1954 حينما لجأ العديد من عناصر الإخوان المصريين إلى قطر واستقروا فيها، وعلى رأسهم: عبدالبديع الصقر، وعبدالمعز عبدالستار، وكمال ناجي، ثم لاحقا في عام 1961 وصل الوجه الإخواني الأبرز يوسف القرضاوي، وأحمد العسّال.

نشط هؤلاء الإخوان مع الشباب القطري حينها من خلال إقامة المعسكرات والرحلات الصحراوية، وتولوا عددا من المساجد في قطر، وأسهموا في تأسيس الكليات الشرعية، وقاموا مباشرة بنشر أفكار الجماعة من خلال إلقاء الدروس وإقامة الحلقات في المساجد، بالإضافة إلى المحاضرات العامّة وصياغة المناهج التربوية والتعليمية في البلاد، واختيار أعضاء هيئات التدريس في كل المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وأسهموا في تأسيس وزارة التربية والتعليم، وكذلك معهد الدراسات الدينية، بدعم من حاكم قطر في ذلك الوقت الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني.

وتم تأسيس تنظيم الإخوان المسلمين القطري، على يد جاسم سلطان، في عام 1975، وعمل التنظيم على استقطاب الشباب القطري بشتى الطرق، ومع التوسع العددي للجماعة بدأت بوادر خلافات حول أسلوب الإدارة، ولم تؤثر هذه الخلافات على تماسك التنظيم، وفي عام 1999 تم حل تنظيم الإخوان المسلمين القطري، واندماجه مع النسيج العام للدولة كتيار، وذلك عندما أعلن الدكتور جاسم سلطان حل التنظيم لعدم الحاجة إليه، لكون قطر تطبق الشريعة الإسلامية.

اجتهد القرضاوي من أول يوم وطئت قدمه قطر على نسج علاقات واسعة ومتشعبة مع أطر وقيادات قطرية في المجالات الحساسة، والتي لها تأثير مباشر على المجتمع القطري، ونجح في بناء جسور العلاقات مع رجال المؤسسة الدينية التقليدية، واستطاع بفضل علاقاته مع الحكام المتعاقبين أن يضع له موضع قدم بدأ يتسع مع الزمن، حتى شاطر الإخوان في قطر السلفيين فيها العمل الديني، وصارا خطين متوازيين يعملان بتناغم تام.

يبقى الانحياز القطري للسلفية أمرا مريبا، كعادة تحركات قطر في كل شيء، ومن المنطقي أن السياسة القطرية تعمل الآن على خلق سلفية بالمقاييس القطرية، والأرجح أنها تسعى إلى تثوير نصوص أئمة الدعوة النجدية، وأدبياتها، ومن المرجح أن السياسة القطرية ستعمل على خلق اتجاه معاكس لحالة الانفتاح والتسامح الديني الذي تتمظهر حوله الدوحة، مما يعني أن هناك حالة نكوص قادمة إلى التطرف، بشكل أعمق وأظهر، لاختلاف التعاطي السياسي بين الإخوان المسلمين البراجماتيين، والذين ساعدوا الدوحة على تبني تطرف خفي، وإرهاب مستتر، على العكس من السلفية التي تأبى التعامل مع هذه الأمور بالطريقة الإخوانية.