العالم هو العالم منذ الأزل لا تحكمه الأخلاق في كل قراراته، ويبقى الإنسان هو المتغير المزاجي الأبرز في كل المخلوقات، الذي يبرهن يوميا على غلبة السلوك النفعي لديه على المبادئ والأخلاق، وشواهد ذلك كثيرة منذ أقدم العصور، إلا من عصم الله بتوفيقه وهداه.

في عصرنا هذا تتضاعف الشواهد كثيرا بمجرد استعراض واقع الأمر مع هذا الكورونا، حيث نجد عددا من الحقائق لا تقبل الدحض.

فمثلا هذه الأعداد الهائلة من الوفيات بهذا الفيروس، بعيدا عن الرعاية الطبية في كثير من البلدان لعجز أجهزتها الصحية عن استيعاب أعداد المصابين بالمرض، على الرغم من قدراتها الاقتصادية الجيدة تعطيك مؤشرا على الموقع البعيد الذي يتقوقع فيه الإنسان على خارطة اهتمامات هذه البلدان والحكومات.

لا يقل بؤسا عن ذلك، المأزق الأخلاقي الذي يواجهه الأطباء يوميا في كثير من بلدان العالم، والذي يتمثل في اختيار من يعيش، فتمنح له الأجهزة الطبية، بينما يُترك الآخرون لمصيرهم المحتوم بسبب نقص أجهزة التنفس المخصصة لهكذا حالات، وهو انعكاس على الفوضى التي واجهها القطاع الصحي في هذه البلدان المتقدمة اقتصاديا والمهتزة مع هذه الجائحة تنظيميا وصحيا وإنسانيا.

فئة أخرى من الدول أدارت الأمر من زاوية اقتصادية بحتة، وجعلت حظ التجار والشركات من الاهتمام أكبر بكثير من حياة الإنسان وصحته، في صورة غير مقبولة إنسانيا وأخلاقيا، وأصبح الإنسان يتأخر لديها في سلسلة ترتيب الأولويات للأسف، وقبلت هذه الدول بالأرقام المتوقعة للوفيات ولو بمئات الآلاف، مقابل البقاء في حالة انتخابية جيدة، أو من أجل مبررات اقتصادية واهية، وأضحت هذه الدول مع الوقت تدفع الثمن مضاعفا دون أن تستطيع عمل شيء سوى تقديم المؤتمرات الصحفية لتبرير تضخم الأرقام في خانتي المصابين والوفيات.

الصور السابقة هي محصلة للسلوك غير المنظم والحلول الارتجالية التي مارستها بعض الدول والمجتمعات في بدايات أزمة كورونا، حيث نجد أنها غرقت سريعا في مستنقع المرض تماما بسبب ضعف الاستعداد، والتساهل في التعامل مع المشكلة مجتمعيا ورسميا، وأصبحت مثل هذه الدول بيئة حاضنة للوباء بصورة محزنة، وتَطْلُب دعم العالم في مواجهة المرض بعد خروجه عن السيطرة.

الفئة الثالثة ركزت على الحلول الاستباقية التي تركز على مبدأ سلامة الإنسان أولاً، تأتي في مقدمتها المملكة العربية السعودية بفلسفتها الإسلامية الشاملة التي يوجهها القرآن الكريم، الذي يؤكد أن من يسعى لإحياء نفس واحدة كمن يسعى لإحياء الناس جميعا، مدركة في الوقت ذاته أن ثمن الوقاية مهما كانت كُلْفته هو أقل بكثير من كلفة المعالجات، وليس بعيدا عن ذلك ثقافة المجتمع التي ترسخ في وعيها أن سلامة الأرواح خارج السياق الذي يتحدث عن تسعير الإنسان في سوق الحياة، كما هو الحال في بعض المجتمعات الأخرى.

إن هذا الوطن العظيم «السعودية» استطاع أن يدير هذه الأزمة بكثير من الإجراءات الموفقة، سواء تلك القرارات التي صُدِّرت لحماية المجتمع (صحيا)، كالقرار الملكي الحكيم والإنساني لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي وجه باستيعاب جميع الحالات المرضية، سواء للمواطنين أو المقيمين دون تفرقة، كنموذج إنساني ليس له نظير في كل العالم، (واقتصاديا) يتضح ذلك من خلال الدعم الكبير الذي تجاوز 9 مليارات للوفاء بما نسبته 60% من رواتب عمال المشاريع المتوسطة ومؤسسات الأعمال التي تضررت بسبب الحجر، والعديد من القرارات الداعمة في هذا الجانب، (واجتماعيا) لم يقل الاهتمام عن بقية المجالات، فاتُّخِذ عدد من الإجراءات المتدرجة لضمان حصول التباعد الاجتماعي بسلاسة ومرونة، كما عززت الجرعات التثقيفية الشفافة والواسعة بشأن إجراءات مكافحة المرض، ودعمت مواطنيها سواء في الخارج أو في الداخل، في حراك نادر لا نظير له تجاه هذه الجائحة.

لقد أثبتت دولتنا الرشيدة -وكما هي العادة- أن الإنسان يأتي أولا وقبل أي شيء كمكتسب أساسي للوطن، وأن سلامته تسبق أي اعتبار آخر من اعتبارات الحياة المادية.

لا شك أن هذا التباين بين الدول والحكومات في التعامل مع هذا الوباء، جعل العالم يعيد التفكير ويتأمل صورة المستقبل بكثير من الحذر والشك، وهو ما سيسهم حتماً في إعادة رسم العلاقات بين الأفراد وحكوماتهم، وبين الشعوب بعضها البعض، لأن الحدث الكوني كورونا كان المحك الذي نجحت فيه دول قليلة، تأتي في مقدمتها السعودية، ورسبت فيه دول ومجتمعات كانت تعطي في أيام رخائها دروسا استعلائية عن حقوق الإنسان، وآن لها أن تلتزم الصمت، بعد أن سقطت بدوِيٍّ كبير عند المحك الكبير كورونا.