أخشى أن يؤدي النقد المنهال على مواد أجهزة الإعلام وبالذات التلفزيون إلى نتيجة عكسية تماما. إن النقد الذي يقال ويكتب ينصب معظمه على تفاهة التمثيليات وسطحيتها، وسخافة بعض مقدمات البرامج، وإقحام رقص هز البطن ومواد التحلل الخلقي بمناسبة وبدون مناسبة، وقد بدأنا نلمح آثارا لهذا النقد، وكارثة حقيقية هي ما حدث، فقد بدأت معظم البرامج تتحول إلى برامج وعظ وإرشاد باعتبار أن هذه هي (الجدية) المطلوبة والعودة إلى القيم الروحية، وأعتقد أن المسؤولين عن التلفزيون أخطأوا تماما، ما يقصد بنقد البرامج التافهة والسطحية أن النفس البشرية تضيق بالوعظ المباشر تماما، يجلس أمامه في التلفزيون إنسان آخر منتفخ الكرش والأشداق يتلمظ بالكلمات، ويأمره أمر اليقين كيف يتصرف وماذا يجب عليه أن يفعل في كذا أو كيت، حتى الأطفال يضيقون بالنصح المباشر، والرد دائما هو إغلاق الجهاز أو تحمل الكلمات الغليظة على مضض وربما توطين النفس على العمل بعكسها تماما.

أجل، مهما أخطأ المسؤولون عن التلفزيون في فهم كلمة (الجدية) و(التمسك بالقيم الروحية والأصيلة لشعبنا وأمتنا)، وفهموا أن الجدية تعني التهجم والصرامة والوعظ المباشر والإرشاد في حين لا علاقة مطلقا بين الجدية والصرامة، فالجدية تعني احترام عقل المتفرج وعواطفه ومعاملته باعتبار أنه ليس كائنا عبيطا أو ساذجا أو طفلا من السهل أن (تضحك) عليه أو تخدعه، الجدية تعني معاملة المتفرج باعتبار أنه عاقل وعميق وناضج، ولهذا لا يمكن أن تنفذ إليه أو تصله إلا من خلال احترامك لعقله واحترامك لشعوره وقيمه. والجدية أيضاً ليست ضد المتعة أو الاستمتاع، فإذا كنا ساخطين على (السطحية) و(الهيافة) فلسنا ساخطين إلا لأنهما أقل إمتاعا ونحن ننشد المتعة الأكبر والأعمق، وأن محمد رضا مثلا حين يظهر في دور ابن البلد العبيط لا أعتقد أنه يضحك حتى أولاد البلد أنفسهم، إنهم لا يضحكون من محمد رضا بقدر ما يضحكون عليه، فابن البلد ليس عبيطا وفي حياته الكثير مما يضحك، ولكنه ليس نتيجة عبطه إنما نتيجة المضحكات من مشاكل أن ابن البلد يملك كل فكر جحا وسخريته وذكائه، وهو يضحك على الآخرين وبالذات على هؤلاء الذين يحاولون تصويره على هذه الدرجة من السذاجة وحسن النية.

إن الجدية هي الاستمتاع بعمق أن الممثلة الجادة قد تمتعني بحديثها أو بآرائها الفلسفية والفنية، بل إن مقدمات البرامج ليس مهما أبدا شكلهن أو باروكاتهن، والغريب أن تلفزيونا متقدما جدا كالتلفزيون البريطاني لا توجد به مقدمات برامج أو نشرات أخبار على الإطلاق رغم وفرة الجميلات البريطانيات، ذلك لأنه حين تأتي المسألة لتقديم برنامج مخاطبة المتفرج من خلال عقل ذكي ناضج فليس مهما أبدا حينئذ شكل المتحدث بقدر ما هو مهم طريقة ونوع وأهمية حديثه.

إن الجدية التي نطالب بها هي أولا وأخيرا، وبجانب هجر السطحية والتفاهة، الغوص إلى المواضيع الأساسية في حياتنا، والمضحك أن برامج التلفزيون مهما تطورت فإنها ستظل دائما وأبدا هامشية، لأننا لا نستطيع أن نناقش داخل جهاز عريض كالتلفزيون أي مشكلة هامة في حياتنا، إنك لا تستطيع أن تناقش من خلاله أية مشكلة أخلاقية أو اجتماعية خطيرة أو تربوية أو جنسية، وطبعا لا يمكنك مناقشة أي مشكلة سياسية أو نقد أي جهاز من أجهزة الدولة حقيقة، في الوقت الذي لا نخجل فيه من عرض تفاصيل جسم المرأة في بدلة الرقص، نخاف أن نعرض لأي تفصيل من تفاصيل النفس الداخلية المصرية، وما دمنا متبعين سياسة النفاق العام هذه والحرص على عدم إغضاب أحد أو جهة أو مسؤول، فستظل جميع المشاكل التي نطرحها غير أساسية وغير هادفة وسطحية، وسنلجأ دائما إما إلى النفاق وإما الوعظ السخيف والإرشاد المباشر.

وتريدون الجدية في برامج التلفزيون للنظر إليه أولا بالمكبر بأنه جهاز ناضج يخاطب شعبا ناضجا وليس صندوق دنيا يخاطب مجموعة أطفال، ويعرض أي شيء إلا أهم الأشياء في حياتنا، ويناقش أي شيء إلا ما يستحق فعلا أن يناقش وأن يطرح على الرأي العام.

تريدون الجدية، أحيلوا جهاز التلفزيون من جهاز تدليك وتخدير إلى جهاز إيقاظ وتوعية، جهاز عرض حقيقي لكل ما هو حقيقي في حياتنا فبهذا وبهذا وحده تتحول البرامج إلى برامج جادة فعلا لأنها ستتحول إلى برامج (ممتعة) فعلا.

*1974

* روائي وكاتب مصري «1927 - 1991»