لم تعُد عاصمة الأمويين كما كانت. اندثرت مكامن القوى الدمشقية، وانقضت وولت إلى غير رجعة. بمكالمةٍ هاتفية، أو بالأحرى بخطاب مُوقع من وزير روسي بسيط لا يزور الكرملين ولا يرى سيد القصر إلا أن يؤذن له. كان الأمر الموجّه من صاحب اليد الطولى إلى التي أقصر، وينص وبصريح العبارة، على فتح باب المفاوضات على مزيد من النفوذ وبسط الإدارة الروسية على الأراضي السورية. قال القيصر بضعاً من كلمات. ولم يتنفّس قصر الشعب في دمشق، لا بسيده، ولا بمستشاريه، ولا بـ«بُثيناته». ولا بأصحاب الصوت المسموع في عاصمة باتت صامتة، لا يعلو في جنباتها إلا صوت السلاح، وصُراخ المُستجوبين في مكتب اللواء علي مملوك، وعناصره، وأفرع جهاز المخابرات الجوية.

أوعز القيصر عبر مرسوم رئاسي لوزارتي الدفاع والخارجية، أن أجروا محادثات مع الجانب السوري، تنتهي بتسلم العسكريين المتواجدين في الأساس الأراضي السورية، مواقع «نفطية»، بالإضافة إلى توسيع وصولهم – أي القوات الروسية الموجودة في سورية – البحري! تتوالى سقطات العاصمة الأُموية، ومع كل مرّة يذهب ثقلها وتاريُخها.

أصبحت عبارة عن خليط من منفذي أوامر قادمة من أقصى الشرق. لم تعُد قبائلها كما كانت ذات ثقلٍ في الثمانينات. ولا عربها، ولا كُردها، ولا بدوها، كما كانوا. من يملكون قوة السلاح هم المتحكمون. قصر الشعب في دمشق لم يعد يملك أكبر من ارتفاع أسواره، وبواباته، التي ربما يأتي أمرُ فتحها وإغلاقها من الكرملين في روسيا الاتحادية، التي يملك قيصرها مفاتيح أسوار أكثر العواصم العربية شهادةً على تاريخ مجيد. لم يعد صراخ ضباط مخابرات القصر مؤثراً.

هيبة الدولة فُقدت وذهبت منذ أن اصطف بشار الأسد الزعيم الأوحد في تلك البلاد مترامية الأطراف إلى جانب وزير الدفاع الروسي، خلف فلاديمير بوتين في 11 ديسمبر 2017، بعد أن منعه ضابط روسي من الوقوف في الاصطفاف البروتوكولي في قاعدة حميميم العسكرية آنذاك، إلى جانب الرئيس الروسي الذي وصل القاعدة الجوية واستقبله جنوده استقبال الفاتحين، دون إخطار للحكومة السورية. رئيس دولة أجنبية يصل إلى دولة أخرى دون علم مسؤولي الدولة المضيفة إلا بعد دخول طائرة الرئيس الضيف الأجواء السورية.! صورة الدولة السورية حينها اهتزت، إلا لدى مؤيدي الزعيم ممن يرددون «الله سورية بشار وبس» في محور طهران، بغداد، الضاحية الجنوبية لبيروت، دمشق.

لا أعلم كيف يمكن تفسير مُصطلح «توسيع الوصول». في السياسة هذا إما أن يكون وضع يد، وإما أن يكون احتلالاً «محمودا» هدفه الدفاع عن حليف، وفق تفسيرات المُحتل، أو صاحب الكلمة الأقوى. ماذا تعني «احتلالا محمودا»؟ يعني أن الحكومة السورية منحت روسيا الاتحادية عبر اتفاقية تقضي بنشر مجموعة من سلاح الجو الروسي للدفاع عن الأراضي السورية، ويكون المتحكم الأول والأخير والمتصرف في تلك المواقع هم القادمون من الشرق وليس أبناء البلاد. وهذا بالفعل ما أقدم عليه نظام بشار الأسد، من خلال بروتوكول تم إبرامه مع روسيا في أغسطس من العام 2015. ماذا يمكن أن يُبلور هذا البروتوكول؟ ما يمكن أن يصل له هذا الاتفاق هو حرمان الحكومة السورية التي حكمت عقوداً عبر حزب البعث، بوجهين للأسد الأب والابن من التصرف في مفاصل الدولة.

وأهم تلك المفاصل ما يمكن أن يتعلق بالدفاع. أقسى أنواع التجريد والانتقاص من الهوية السياسية لأي دولة، هو تقليص صلاحيات اليد الحاكمة، عبر كفها وثنيها عن التمكن من إدارة عمليات الدفاع عن الدولة. يبدو أن التشبث بكرسي الحكم لدى النظام الحاكم في سورية ذو أولوية قصوى، تفوق أهمية الحفاظ على مقدرات الدولة، وأهمها الهوية التي يجسدها الحاكم الفعلي وليس الصوري.

فالحاكم الفعلي عليه أن يعمل على ثبات الهوية خصوصاً في دولة كبرى ذات تركيبة ديموغرافية كسورية. وعلى الرغم من ذلك وكل ما سبق، سأتفق بالمطلق مع من قد يرى أن الوجود الروسي على الأراضي السورية أقل أنواع الشرور ضرراً، ما إذا تصورنا أن البديل لسد الفراغ من قبل روسيا الاتحادية سيكون عبر مخالب إيران في المنطقة.