لماذا تنزع المجتمعات إلى المبالغة في تقدير الذات؟ ووسم نفسها بخصوصيات تصل حد التضخيم والشوفينية عند بعضها.

سؤال يُطرح كثيرا في ضوء ما نراه ونسمعه ونتداوله من تلك الخصوصيات المتعلقة بالحجم، أو القوة، أو التأثير أو الفرادة المتصلة بالهوية أو اللغة أو الثقافة أو العنصر، وغير ذلك من الخصوصيات، فلماذا يحدث ذلك؟

تبدو الإجابة غير سهلة، خاصة مع هذه التباينات التي تجتاح العالم، وتصادر كل صور اليقين في الأذهان، ولكن للمقاربة فقط يمكننا أن نركز على الأنماط والصور الأكثر تمثيلا لهذه الحالات، حيث تظهر أمامنا صور هي الأبرز شيوعا وانتشارا، ومن خلال استعراضها يتبين لنا من كل حالة، مبررات وجودها وبعض نماذجها الممثلة لها في الواقع:-

1- الصورة الأولى متعلقة بتمجيد الذات في المطلق بكل الخصوصيات المستهدفة، وهنا وبشيء من التفكير نجد أن كثيرا من تمجيد الذات بالنسبة لهذه المجتمعات يصبح اتجاها مجتمعيا ورسميا، تسوقه كل قنوات الثقافة والإعلام والتربية، حيث يتم العمل على تشكيل وعي المجتمع في هذا الاتجاه، لعلاج قضايا داخلية متعلقة بالوعي بالنفس كقيمة تاريخية، وحضارية، ودينية، وثقافية، أو لوجود خلل وهشاشة في بنية الوعي بالذات، يشعر بها قادة ومفكرو هذه المجتمعات، فيتم حينها إيجاد نسق متصاعد من هذه الخصوصيات لتحصين المجتمع من الداخل حتى لا يتم التشويش عليه، وتعزيز مساحة الرضا الداخلي له، والعمل على تأكيد وحدته وحصانته، والقيام بتهدئته في مواجهة بعض الضغوط الداخلية أو الخارجية التي قد تتباين في الشكل والمحتوى مع المجتمعات الأخرى كليا أو جزئيا، وتصبح هناك حالة من التكريس الممنهج والدائم لهذا النوع من التمجيد للذات لكل تلك المبررات والأهداف التي سبق الحديث عنها، وهو أمر تكاد تمارسه معظم الحضارات والمجتمعات بصورة دائمة، ولكن بنسب مختلفة من مجتمع لآخر بحسب إلحاح تلك القضايا من عدمه، ولعل المثال الأبرز تاريخيا لتلك الصورة، النظام الشيوعي في مواجهة النظام الرأسمالي، حيث كان كل منهما يرسخ في وعي جماهيره والدوائر التي تتأثر به، تلك الفرادة والخصوصية المطلقة، فيقوم كل طرف بتوجيه كثير من الأنشطة الثقافية والإعلامية في تلك المجتمعات لتكريس مثل هذه الصور الاصطفائية التي تدعم أهداف ذلك النمط وتلك الصورة.

2ـ الصورة الثانية تتمثل في نزوع بعض المجتمعات إلى تمجيد الذات مع ارتفاع نسبي في بعض الجوانب دون نفيها عن الآخرين، وهنا يتم العمل على إيجاد صور من الخصوصيات للذات ومعالجتها بشتى الوسائل لنفس المبررات في الصورة الأولى ولكن بصورة أكثر هدوءا وأقل صخبا، وذلك لوجود استقرار لهذه المجتمعات في نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تأتي حالة التكريس لتمجيد الذات مع انفتاح على الآخرين بصورة نسبية، وإعطاء التشارك مع الآخرين ومعايشتهم أهمية عند بناء هذا الوعي في ذاكرة الجماهير، ويكاد يكون هذا النمط هو الأكثر وجودا في معظم الثقافات والدول والحضارات ذات الاستقرار والبناء الراسخ لهوية المجتمع ومؤسساته.

3ـ الصورة الثالثة تأتي لتكريس تمجيد الذات بمبالغة كبرى مع غمط الآخر وسلبه كل ما لديه من خصوصيات أو سمات، بل وحتى الافتراء عليه وتضخيم مشكلاته، وذلك يأتي غالبا في المجتمعات ذات الهشاشة في مستوى بناء الدولة وارتفاع مستوى المخاوف لديها، وتوهم وجود عدد من الخصوم الذين يديرون معها أنواعا من الصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، وهنا يكون التكريس مشوباً بالعدائية والهجومية التي يستشعرها الجميع في الداخل والخارج وتصبح محل نقد لذوي الفكر، سواء المتداخلين في هذا الأمر أم البعيدين عنه والمحايدين، ومن أبرز الأمثلة لها النظام الإيراني الذي تحيط به مجتمعات لم تستطع تقبله والتعايش معه لطبيعته العدوانية الشديدة واختلاقه الصراعات بصورة لا تتوقف، وغالبا يحدث هذا الأمر لإلهاء الداخل عن مشكلاته الحياتية والتنموية الدائمة، وتحويل الأنظار للخارج كمهدد دائم لوجود ذلك المجتمع، حتى يتوحد المجتمع وراء قيادته التي تصور نفسها للجماهير في صورة الحامية للمجتمع وقيمه الوطنية المهددة، وهي في عمومها أنظمة قمعية تدميرية لنفسها وللآخرين بصورة تدعو للاحتياط لها ورصد حالة التضخم هذه ساعة بساعة، وحشد كل الطاقات للأخذ على يدها قبل استفحال أمرها.

4ـ الصورة الرابعة تأتي منفتحة واثقة تعرف قدراتها ومكامن القوة لديها، وهي تعرف أيضا أن هناك مكامن قوة لدى الآخرين ويمكنها بشيء من الحوار بناء صور من التكامل والتشارك والبناء في الاتجاهين، حيث يكمل كل منهما الآخر وغالبا يحصل هذا الأمر عند وجود حالة استقرار طويلة المدى لهذا المجتمع في جميع الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تم العمل عليها وتطويرها وتأسيسها في ضوء ذلك.

إن هذه الصور ليست هي الوحيدة التي يمكن حصرها كنماذج دون غيرها، بل تنفصل من كل حالة من الحالات الأربع صور أخرى متعددة بالنظر إلى مقدار ونسبة وجود كل حالة من الحالات على جزء من جغرافية كوكبنا الأرض، والأمثلة التي تترجم كل صورة من تلك الصور كثيرة، بل قد نجد أن بعضها يقف في مواجهة الآخر في حالة تجاور في المكان، وتنافر وتضاد في الاتجاهات، حيث يمثل كل منهما الطرف البعيد المقابل للآخر، وهنا ينشأ عدد من التعقيدات الكبيرة على الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية، ولعل أبرز مثال على ذلك ألمانيا الشرقية والغربية سابقا قبل التوحد، وحاليا تمثل الكوريتان الشمالية والجنوبية تناقضا كبيرا، وهنا يتم تصدير كثير من الصور غير الدقيقة من الجانبين ضد الآخر وبمبالغة كبيرة بما يؤدي إلى التشويش على المجتمعين وارتفاع الحالة العدائية في الجانبين، بل قد يمتد تأثيرها ليبلغ مدى بعيدا قد يؤثر على استقرار العالم وأمنه.

إن مثل تلك الحالات والصور تحشد الجماهير وراء قضية ما بحيث يتحفز كل طرف من الاثنين إلى بذل قصارى الجهد للوصول إلى أهدافه وغايته، من خلال تسخير جميع الموارد البشرية والمادية للوصول إلى أهدافه جزئيا أو كليا.

ونختم القول بأنه لا يمكن رفض الاعتزاز بالنفس لأي مجتمع بشري طالما كانت متوازنة تعترف بحقوق الآخرين، حيث إن الاعتداد بالأوطان والمجتمعات والأفراد بذواتهم أمر طبيعي لفرادة قصة الإنسان كعنصر ذكي يثري الحياة ويطورها، ولكن المرفوض من كل تلك الصور هو تضخيم الذات بعيدا عن الموضوعية والتوازن الذي إن حدث فهو يجلب الويلات للجميع، ولعل كثيرا من أمثلة الإفراط في تضخيم الذات وشوفينية الشعور بالتفوق على الآخرين قد دمرت نفسها ومن حولها بصورة مأساوية تأتي ألمانيا وإيطاليا في الحرب العالمية الثانية كأبرز مثال على ذلك، ولهذا على البشرية بدولها ومؤسساتها أن توجد مجسات تقيس فيها تنامي مثل هذه المشاعر، وتحرص على توجيهها بالصورة المناسبة التي تضمن التوافق والتكيف مع الجميع، وتقبل الآخرين كشركاء في هذا العالم بحقوق متساوية في العيش الكريم، دون إقصاء أو انتقاص من قيمة الإنسانية وحقوقها المضمونة في جميع الشرائع والقوانين.