لاشك أننا كأفراد جزء من العالم ننشغل به وينشغل بنا، كلٌّ بقدْره وحجمه وقيمته بالنسبة للآخر، ولكننا في كل الأحوال نتفاعل معه ولا نديره، وسواءً تكيّفنا معه أو لم نتكيف فلا فرق بالنسبة له، فهو يصير إلى حتميته التي قضاها الله له، ولن يفنى إذا بُحت حناجرنا صياحا وامتعاضا وضجيجا، ولن يهتز طرباً إذا صفقنا وهللنا لأيٍ من أموره، وسيبقى واسعا وكبيرا بالدرجة التي لا نملك فيها زحزحته عن حاله التي هو عليها حُسْناً أو قُبحاً..

طالما الحال هكذا فإذاً ما هو الحل؟

هل السكوت ينهي المسألة؟

وهل الانكفاء على النفس وترك العالم «بما وبمن» فيه هو الحل؟

أم أن الصياح والصخب والاعتراض سيجعل العالم يصغي عندما نصرخ، ويأبه عندما نمتعض، ويقف دوران كوكب الأرض عندما تتصالب أيدينا في وضع الاعتراض والشجب والاستنكار..

من المؤكد أن لكل فضيلة حراسها من النظام والقانون، ولكن هناك أمور لم يحسمها النظام والقانون بصورته القطعية، وترك للمجتمع أن يناور في مساحة الممكن دون الإخلال بالنظام من جهة، وفوق تكبيل وتقييد الأفكار والسلوك العام من جهة أخرى، وجعل ما بين سلطة النظام بحديته وقوانينه، وما بين الانفلات غير المقبول وانفراط السلوك البشري وانحرافه مساحات ودرجات من المرونة الإنسانية، تديرها المجتمعات بأعرافها وتقاليدها ومُثُلِها، بهدف تمكين العنصر البشري من أن يفكر ويجرب في مساحات عدم التثريب والمؤاخذة، ولذا تراكمت تجارب البشرية في هذه المساحات من المرونة بصورة هائلة، بما لا مقارنة بينه وبين تراكم نصوص القوانين، لأن الأصل في سلوك الإنسان يدور حول المسموح لا الممنوع والمحظور. ومن ثم فإن كل من يتجاهل مثل هذه الحدود والفواصل والمساحات فينطلق بصخبه وامتعاضه نقداً وتقريعا للمجتمع أو الأفراد فإنما يحرق نفسه وأوراقه، ويصبح جزءا مسكونا بالغضب المستمر، خطيراً كأسلاك الكهرباء المكشوفة تلدغ كل من يقترب منها، ويحْذَرْه الناس ويبتعدون عنه، فلا يكتسبون منه شيئا، ولا يكسبونه أي مفيد، وهنا الخسارة حتمية للطرفين، ولكنها بالنسبة للفرد خسارة تبلغ مستوى الفداحة والمرارة..

أيضا ذلك الساكت المنكفئ على ذاته المنغلق على نفسه، يحْرم نفسه من جمالية التفاعل الإنساني، وثراء التجارب البشرية لدى هذا المخلوق العجيب، الذي أعطى للحياة نكهة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تلك التفاعلات الجميلة التي تحتمل الأخطاء وتعالجها بالتفهم والتفاهم ومعرفة البواعث والتسامح في مساحة الممكن التي لا تفرض تدخل القانون، بل تعظم من التربية وتعديل السلوك بمحبة واحتضان وليس بالقسر والعدوان.. إننا في أمسّ الحاجة لنصغي للحياة دون انحناء، في أمس الحاجة لنتعلم من أخطائنا دون أن نوغل في التسامي الذي يصل حدود الاستعلاء..

في حاجة ليكون الحب سيد الموقف دون أن تجتاحنا تلك اللوثة التي تصيب أحدهم فيعتزل الخلق استنكافاً أو تبرماً أو يأسا، بل الأجمل أن تكون حيّاً بين أحياء، تعطي وتأخذ، تتجاوز وتغفر، تربت على الأكتاف، وتشجع على النهوض من العثرات.

لستَ أيها المخلوق في حاجة إلى أن تقيم الحجة على الخلق فليس عليك من حسابهم من شيء، ولك أن تجتهد لتقول وتفعل الصواب في كل المساحات التي تتسع لك ولكل العالم، دون تلك الزوايا التي لا تحتمل الاختلاف والتنوع، وترى البشرية من موضع العلو أو الارتياب، فمن قال قد هلك الناس فهو أهلكهم، والأمر يدور برمته على تلك الروح وذلك القلب الذي يتسع للجميع، داعما وناصحا برفق المحب الذي يتسع قلبه لكل العالم، من غير تفريط أو إفراط، فجميع من في السفينة أعلاها وأدناها على ذات القدر من المسؤولية ليصل الجميع إلى بر الإيمان مطمئنين سالمين.