إن الدوافع القهرية في الإنسان كثيرة يصعب حصرها، وقد يصح القول إن كل إنسان لا بد أن يكون مصابا بدافع قهري واحد أو أكثر من واحد، ولكن الفرق بين الأفراد من هذه الناحية هو فرق (درجي) فأحد الأشخاص قد يكون دافعه القهري ضعيفا، وفي مقدوره السيطرة عليه، بينما يكون في شخص آخر قويا يصعب السيطرة عليه. إن الدافع القهري يجعل الإنسان يندفع في عمل يضره أو يضر غيره وهو يعرف أنه يضره ولكنه لا يستطيع التحرر منه، ولم يعرف حتى الآن سبب ظهور الدافع القهري في الإنسان. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن البحوث العلمية التي تدرس طبيعة البشر ما زالت تشعر بالعجز تجاه الكثير من أسرار هذه الطبيعة، ويمكن أن نقول بوجه عام إن العلوم كلها تقف الآن عاجزة عن فهم أسرار الكون، ولكن العلوم الإنسانية أكثر عجزا في ذلك من العلوم الطبيعية، ولعل من المناسب أن نذكر هنا الحكمة العربية القديمة التي تمثلت في البيت المشهور:

أتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إن الوسوسة قد تكون في مجال الحساب أو الكتابة أو القراءة أو في تنظيم الأشياء وترتيبها، فهو يطلب الكمال فيها ويعيد فيها مرة بعد مرة، لأنه يشك في استكمال ما قام به فعلا، وهو يكرر فعله بغية الوصول إلى الكمال المطلق الذي هو مستحيل طبعاً.

يجب ألا ننسي أن الوسوسة هي من أهم العوامل التي تعرقل نجاح الإنسان في حياته، فالإنسان الناجح هو الذي يستخدم موهبته في المجال الذي يعمل فيه، ومشكلة الوسوسة أنها لا تسمح للإنسان بأن يستخدم موهبته استخداما طبيعيا، إذ إن التدقيق الشديد المبتلى به يجعله يهمل إلهام موهبته ويشغل نفسه بالتكرار الذي لا جدوى فيه.

اتضح الآن علمياً أن كل مهنة في الحياة تحتاج إلى موهبة خاصة بها، ومن العبث أن يحاول الإنسان النجاح في مهنة لا موهبة له فيها فهو يكدح بلا جدوى. ومن الجدير بالذكر أن الموهبة تلقائية ولا شعورية في الغالب، والذي يريد أن يستثمر موهبته إلى الدرجة القصوى يجب أن ينسجم معها ويستجيب لإلهامها دون تردد بأنه يدري أنه معرض للخطأ في أعماله ولكنه لا يبالي بذلك، لأن المنفعة التي تأتيه من الانسجام مع الموهبة هي أكثر من الضرر الذي ينتج من الخطأ. مشكلة الموسوس أنه لا يفهم هذا أو هو لا يستطيع أن يفهمه، وهو كثيرا ما يفقد إلهام الموهبة من جراء انشغاله في التدقيق والاستكمال، إنه يخشى من الخطأ وينسى أن الخطأ محتوم في الإنسان لا مفر منه.

إن الموسوس يريد أن يجعل عمله كاملا لا خطأ فيه ولا نقص وهو لا يدري أن الخطأ لا مناص فيه في كل عمل يقوم به الإنسان.

1958*

*عالم اجتماع ومؤرخ عراقي «1913 - 1995»

اتضح علمياً أن كل مهنة في الحياة تحتاج إلى موهبة خاصة بها، ومن العبث أن يحاول الإنسان النجاح في مهنة لا موهبة له فيها، فهو يكدح بلا جدوى