صدر كتاب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، وسط حالة من التجاذب السياسي لم تشهدها أمريكا منذ فترة طويلة، ففي أعقاب عامين من الحراك السياسي والقانوني للحزب الديمقراطي في مسعاه لعزل الرئيس ترمب، وما تلى ذلك من جائحة اجتاحت العالم وأمريكا، وانتهاء بالمظاهرات الأخيرة المناهضة للعنصرية التي شهدتها المدن الأمريكية على إثر مقتل رجل من أصول إفريقية على أيدي الشرطة، فقد صدر الكتاب بعد محاولات قانونية من الرئيس ومعاونيه إيقاف نشره، بسبب ما تضمنه من أسرار تمس الأمن القومي وفق تبريرهم، وهو ما لم يتحقق، لعوامل قالت عنها المحكمة ألا جدوى من منع الكتاب، وقد تسرب ووزع، الأمر الذي يجعل منعه قرارا يصعب تطبيقه.

الكتاب الذي قرأت منه حتى الآن جزءا لا بأس به، ومن خلال الاطلاع على القراءات التي نشرتها الصحف والمواقع الأمريكية ، يتحدث عن خفايا لا شك أنها ستضر الرئيس في الأيام المقبلة، فالكتاب شهادة تأتي من مقرب للرئيس، عمل معه حتى قبل أن يعين في منصبه الرسمي، فمنذ الأيام الأولى كان جون بولتون في محيط القرارات التي تتخذها الإدارة الأمريكية في عدد من الملفات الدولية، من صفقة القرن عبر تنسيقه المستمر مع جاريد كوشنر، أو من خلال الملفات الخاصة بكوريا الشمالية وإيران وغيرها، عبر التنسيق مع ستيف بانون، ووزراء الرئيس ومستشاريه المقربين.

جون بولتون وهو الجمهوري المحافظ المتشدد، لم يكن ليدخل البيت الأبيض ما لم يكن على ثقة بقدرته على أخذ الرئيس وإدارته نحو توجه متشدد بخصوص تلك الملفات الدولية المهمة، فالرجل من دعاة الحرب المعروفين ومؤمن بضرورة تغيير الأنظمة الفاسدة بالقوة، وخروجه وانقلابه على الرئيس أتى نتيجة كما يبدو لتردد الرئيس، وعدم جديته في إدارة القضايا الإستراتيجية التي تمس مكانة أمريكا وموقعها في العالم بالشكل الصحيح وفق بولتون، والذي أدى كما يرى إلى تحول الإدارة الترمبية من مشروع متشدد لبسط الهيمنة الأمريكية في العالم، كما كان يدعي ترمب في خطاباته الانتخابية، إلى مسرحية سياسية تعمل على إطالة أمد ترمب وإعادة انتخابه لفترة ثانية، دون أن يكون هناك هدف أسمى يخص أمريكا وموقعها كسيدة العالم.

الكتاب تضمن العديد من الكشوف والإضاءات لواقع العمل داخل البيت الأبيض، فالرئيس الذي سبق أن كتب عنه وسرب بخصوصه أنه لا يقرأ الملخصات الاستخباراتية اليومية، ولا يهتم كثيرا بفهم الخلفيات التاريخية والعوامل الإستراتيجية التي تحدد وحددت في الماضي القرارات السياسية الأمريكية، إلا أنه ربما من أهم ما يثيره بولتون في هذا الكتاب الجديد، وهو ربما أكبر الأسباب التي تجعله يخرج في العلن لانتقاد ترمب، هو انعدام آلية مهنية صحيحة في مسألة اتخاذ القرار السياسي في الإدارة الترمبية، فكل شيء يمكن أن يتغير بين لحظة وأخرى بناء على شعور الرئيس أو بناء على علاقة شخصية تحسنت أو ساءت مع رئيس دولة معينة، أو من سبق الآخر من مستشاريه في إقناعه، دون أن يعمل ترمب على وضع الخيارات كلها ودراستها بالشكل الذي يخدم الرؤية الإستراتيجية للبلاد، وهي عوامل كما يقول بولتون لا تصلح أن تكون الركيزة التي تصدر بها قرارات تمس الأمن القومي الأمريكي والبلاد على وجه العموم.

في تقديري تعد هذه القضية هي الأكثر حساسية ودفعا لبولتون في الخروج من صمته ونشر الكتاب، أما تجلياتها فكانت من خلال الروايات والشهادات التي ذكرها، وسلطت عليها وسائل الإعلام مقتطفات منها، من قبيل طلبه من الصين تسهيل التوصل لاتفاق خاص بالزراعة ليخدمه ذلك انتخابيا مع الولايات الزراعية في أمريكا، أو عبر امتداحه خلف الأبواب المغلقة قيادة الصين في بنائها معسكرات الاعتقال الخاصة بالأقلية الإيغورية، أو بخصوص المقايضة مع الرئيس الأوكراني حول فتح تحقيق مع بايدن وابنه، مقابل الحصول على الدعم العسكري الأمريكي الذي كان الكونجرس قد اعتمده لها لمواجهة التهديدات الروسية.

يقول بولتون، إن الرئيس الذي يسأل إن كانت فنلندا جزءا من روسيا، ولا يعلم أن بريطانيا تعد دولة نووية، لا شك أنه يجهل الكثير، وبالتالي فإن القرارات التي تمس أمن الوطن ومستقبله مع شخصية نرجسية تعتمد الولاء فقط في الأخذ بالنصيحة أو الاستشارة، أمر مخيف وينبئ بالقدر الذي وصلت إليه هذه الإدارة من العمل الهاوي البعيد عن الاحترافية والتنظيم الذي خبرته في ثلاث إدارات جمهورية سبق أن عملت معها في مسيرتي المهنية.

البعض يسأل عن السبب الذي دفع بولتون لإصدار هذا الكتاب، والجواب عن هذا السؤال ربما يدخل في باب التكهنات، ولكن في تقديري تعود الأسباب بشكل رئيسي من خلال متابعة مسيرة هذا الرجل ومواقفه لعدد من الأسباب الجوهرية، فأولها، هو اختلاف الرجلين في تعاطيهما مع الأهداف السياسية العليا للبلاد، فبولتون من جهة سياسي متشدد يدعو للحرب وتغيير الأنظمة بالقوة، بينما ترمب رجل يتظاهر بالقوة دون أن يكون لديه النية أو الاستعداد لاتخاذ القرارات الصعبة والمفصلية التي تثبت واقع أمريكا كقوة حقيقية وفق معنى القوة الذي يراه بولتون، إضافة إلى أن بولتون كان من المقربين للعضو الجمهوري والمرشح الرئاسي السابق ميت رومني الذي يعد اليوم أهم خصوم ترمب داخل الحزب الجمهوري، فرومني هو الجمهوري الوحيد الذي صوت مع قرار عزل ترمب وهو الجمهوري الوحيد الذي نزل للشارع، مؤخرا، تأييدا للتظاهرات المناهضة للعنصرية والمناهضة لترمب، إلى جانب أنه يعد من الصقورالجمهوريين الذين أعادوا رسم الحزب وتوجه الرئيس منذ زمن ريجان مروراً بالرئيسين بوش، وهي الإدارات التي عمل فيها على تحويل أمريكا إلى دولة يصفها البعض بالإمبرالية، فريجان عمل على إضعاف وإنهاك وتفكيك قوة الاتحاد السوفيتي، وبوش الأب حارب وحجم صدام حسين ووضع المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي الذي انهار ككيان في وقته، وبوش الابن اجتاح العالم بحربه على الإرهاب من جهة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والإطاحة بصدام وغزو العراق من جهة أخرى، بينما ترمب وبعد مرور أكثر من نصف مدته لم يتجرأ على تحقيق أي عمل يمكن أن يؤدي لانهيار خصومه، فإيران ما زالت تتمدد رغم الانسحاب من الاتفاق النووي والذي أيده بطبيعة الحال بولتون، وروسيا ما زالت تختال في سورية وغيرها من مناطق الصراع حول النفوذ الدولي، وكوريا الشمالية انتهى الأمر بترمب معها إلى أن يسعى لالتقاط صور مع الزعيم الكوري الشمالي لدواعي التسويق المحلي والدولي، دون أن يكون هناك أي خطة حقيقية في تغيير النظام أو حتى ضمان إيقاف مشروعها النووي.

بولتون انقلب على ترمب ببساطة؛ لأنه يمثل وهم القوة، وليس القوة التي يسعى لتحقيقها بولتون لبلاده، ولذلك انقلب على ترمب كما يرى البعض بحيث يضمن سقوطه وسقوط الحزب معه مرحليا على أمل أن يعاد بناء الحزب وفق رؤية التشدد البولتونية في انتخابات 2024، وهو تماما ما قام به ستيف بانون ويمينه المتطرف في الحزب الجمهوري في أعقاب التأكد من فوز أوباما بفترة ثانية، فقاموا على إضعاف الحزب الجمهوري الذي وصفوه بأنه لم يعد أعضاؤه جمهوريين حقيقيين، الأمر الذي أسفرعن هزيمة رومني أمام أوباما في 2012، وليبدأ التغلغل اليميني داخل الحزب الجمهوري، دون أن يلحظ أحد ذلك التغلغل الذي كانت نتيجته ترشيح ترمب عن الحزب، وبالتالي الفوز بالرئاسة وسط ذهول الجميع، وربما كان أولهم الجمهوريين أنفسهم.