صغيرة في حجمها. بهيةٌ في أزقتها والطرقات. بدائيةٌ في بعض المدن ذات الولاءات. زاهية وردية في أخرى. مؤثرة في استقطابات المنطقة. يُفهم من أجوائها الخصام والتراضي. ليست دولةً للتسلية أو الفرح والبذخ والدخول في قوائم الارستقراطية. تاريخياً، هي عبارة عن صندوق بريد للمراسلات الإقليمية والدولية. مُنذُ الاحتلال الفرنسي، وحتى الوجود العسكري «الأسدي»، اعتادت على «العسكرة» و«المخابراتية» و«الزعرنة». شكلت عوالمها الواضحة طابعاً مخملياً في جانب، والخفيّة شائكة. وربما ملغومة.

أعرف تاريخها. وأسرها العريقة. وشخوصها غير «المنقلبون المأجورون» كما يعرفها غسان شربل، الذي يخشى على أبنائه مشاهدة جموع الرافضين، والمتذمرين ضد الحكومة والرئيس في الشارع. والليرة ورغيف الخبز. وقرأت في تاريخ ومذكرات محسن إبراهيم السياسي اللبناني الراحل وأمين عام منظمة العمل الشيوعي، الذي أجد أنه ذاكرةً كبيرة خسرها العالم العربي وليس لبنان فحسب.

من رائحة العنب أُدرك أني في جبل الدروز، حيث الحزب التقدمي الاشتراكي، والإرث الجنبلاطي، المُمتد من «المغدور به» كمال جنبلاط على يد حافظ الأسد – أو أذرعته -، حتى وليد بيك صاحب المزاج المُتقلب، وصولاً إلى تيمور جنبلاط، الوريث السياسي لتلك الأسرة ذات الجذور الضاربة في أعماق التاريخ.

تُرافقني عقلية التحديث والآمال التي رسمها رفيق الحريري، وكانت تحوم حولي في «سوليدير» بيروت. شعرت مراراً بأني في أزقة جنيف التي أحبها وأتردد عليها كثيراً. لوهلة أجد نفسي مضطراً للهروب من قرب أبراجٍ أعرف أنها لـ«ميقاتي» الذي يُظهر شيئا ويُبطن ضده، لا سيما وأنه يُذكرني بسيد القنابل والمفخخات، الوزير «ميشال سماحة»، إبّان ترؤس «نجيب» مجلس وزراء لبنان.

تصطحبني شخصية الحكيم سمير جعجع سيد معراب ورئيس حزب القوات اللبنانية. السجين الذي خسر كل شيء، بما في ذلك كرسي الرئاسة، لكنه كسب مصداقيته مع الآخر ولم ينهزم ولم ينكفئ. أعي جيداً تقلب منافسَيه المسيحيَين. البعيد الصامت سليمان فرنجية «زعيم المردة»، الذي يملك مفاتيح قلب الساحة المسيحية رأساً على عقب دون اكتراث، وصديق «الأسدين الأب والابن». والجنرال الذي استمات لرئاسة لبنان وباع مبادئه الأخلاقية والسياسية، بعد أن كان هارباً. وصهره جبران باسيل وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر المرتمي في أحضان القتلة، الذي أثار طرابلس عاصمة الشمال ومعقل سنة لبنان العام الماضي بعنجهيته، حين اتهم القوات اللبنانية باغتيال رشيد كرامي رئيس وزراء لبنان الأسبق، بعد يومين من زيارته لجبل الدروز، التي خلفت قتيلين نتيجة رفضها.

ولا بُد من المرور بالذاكرة على بيت الجميّل. حيث الرؤساء، والوزراء، والـ«شهداء». ذلك البيت الذي وفق ما قال لي شخصياً يوماً ما سامي الجميل رئيس حزب الكتائب اللبنانية، إن أسرته تعود جذورها إلى المملكة، وإلى قبيلة شمر العريقة. يُردد والده أمين الجميل ذلك الانتماء على الدوام.

أفهم تاريخ «سيد القُرنفلة». صائب سلاّم رجل الأعمال، وأحد أهم الزعامات اللبنانية الكبيرة قبل الحرب الأهلية، التي عصفت بلبنان. زرت ابنه تمام سلاّم يوماً ما. كان حينها يتبوأ منصب رئيس الوزراء اللبناني. يقطن منطقة «المصيطبة». قال لي السائق أنت في معقل حركة أمل «الشيعية». الأعلام الخضراء تُرفرف. والشعارات «الحُسينية» كذلك. الهدوء يسود المنطقة. استقبلني حارس القصر القديم في بُنيانه، الذي تفوح منه رائحة الماضي. شاهدت في ذلك القصر، عشرات النساء «الشاكيات الباكيات». هدفهن مقابلة الشخص الذي كان ينتظر وصولي في الطابق العُلوي. قاومت الزحام وركبت السلم. قابلت رئيساً يؤمن بكل شيء. قال لي وأنا حينها كنت أعمل في هذه الصحيفة رئيساً للقسم السياسي، وذهبت لأجري حواراً مطولاً معه، «لبنان فوق كل شيء. التعايش السلمي سيد كل شيء. أنا أعيش في منزل الأسرة الموروث بين «شيعة حركة أمل». نحن أبناء جلدة واحدة بعيداً عن السياسة وإرهاصاتها».

أجريت حديثي معه وخرجت فرحاً بما جسّده تمام سلام من تعايش محمود بين الطوائف والمذاهب. مررت بعدها على السفارة السعودية في بيروت حيث علي عواض عسيري. هاتفته قبل قدومي. قال لي «صديقك شَرب القهوة وغادر». يُشير أبا فيصل إلى الوزير الاشتراكي وائل أبو فاعور. يتردد وائل على السفارة دائماً. ربما لأمور سياسية باعتباره مبعوثاً لنقل الرسائل «الجنبلاطية». وربما لصداقته الشخصية بالسفير. أو حُباً للقهوة السعودية.

وصلت مكتب السفير. لم أجد القهوة حينها. قلت لعسيري «جئتك من المصيطبة حيث تمام سلام وحركة أمل. ضحك وقال مهمتك المقبلة في الضاحية الجنوبية. عليك زيارة معقل حزب الله. كُن شُجاعا واذهب. أجبته بأن هذا الأمر يستحيل. لا أعرف حزب الله إلا كونه مأجوراً ورهينةً للخارج. إن كنت أرغب زيارة أحد رموز الشيعة في لبنان، فيمكن أن أزور السيد علي الأمين. قال ماذا تعرف عنه؟.

قلت أعرف أنه من أبرز الرموز الشيعية في لبنان مناهضةً لمشروع الولي الفقية. وأعرف أيضاً أنه لم يخلع رداءه العربي، ويمثل الاعتدال والمصداقية. وأعرف أنه ضد الحروب والدماء، ومع تلاحم أبناء البلد الواحد بعيداً عن الدين والسياسة والطائفة. ورغم ذلك بكل أسف لم يتحقق اللقاء.

لا إرادياً قلبت بعضاً من الذكريات، التي أثارها ادعاء أقيم قبل أيام ضد السيد علي الأمين، تحت ذريعة «لقاء إسرائيليين في مملكة البحرين»، حسب نيابة جبل لبنان، التي استدركت لاحقاً وصوبت التهم، وقالت إنها تقتصر على «بث الدسائس والفتن، والمس بالقواعد الشرعية للمذهب الجعفري». أيقنت أن ذلك ثمن رفض الانبطاح الذي يجسده بعض شيعة لبنان في الحضن الإيراني. زاد يقيني بأن السياسة في لبنان تحكم كل شيء. وأن بعض ساستها كـ«القرود.. إن تصالحوا اقتسموا المحصول، وإن تخاصموا أفسدوه».