التميز والنجاح لا يأتيان صدفة، ولا يكونان نتيجة لمبادرة عابرة أو برنامج مؤقت، أو تظاهرات إعلامية لبرامج وجهود وهمية، ما تلبث أن تتبخر مع انتهاء فترة زخمها كفقاعات هوائية، وإنما يكونان ثمرة لجهود متواصلة وتطلعات مدروسة ونفقات موجهة، نحو تحقيق أهداف محددة لبلورة إستراتيجيات عميقة في محتواها، شاملة في تطلعاتها، عالية في مغزاها وفي قيمتها الإنتاجية وفي مردودها التنموي الذي تحصده الإنسانية جمعاء.

عندما تدعم المملكة مسيرة التعليم لعقود، وعندما تدفع نحو التميز والإبداع الفردي والمؤسسي، وعندما تهتم بالجودة وفق معايير علمية تُعنى بقياس مستوى الأداء لتقييمه ومساءلته، فهي بالتأكيد ستحقق التميز والنجاح الفعلي في جميع ما تستهدفه من برامج وتطلعات وطنية ودولية، فتلك النتيجة الطبيعية لما سعت إليه ولما بذلت من أجله.

أظهرت نتائج مؤشر «نيتشر» لعام 2020، تقدّم السعودية عالمياً في حصة البحث العلمي، وقد شاركتها الإمارات، في قائمة الـ 50 العالمية لأكثر الدول حصة في الأبحاث العلمية، وباستحواذ المملكة على المركز 29 عالميًا، فإنها تكون بذلك قد حافظت للعام الثالث على التوالي على مكانتها الدولية المتميزة، كأكبر حصة مساهمة من أبحاث الدول العربية، وثاني أكبر مساهم بين دول الشرق الأوسط وإفريقيا.

لم يكن الاهتمام بالتعليم استثنائيا في مشروعنا التنموي فحسب، وإنما كان القاعدة التي ارتكزت عليها جميع القطاعات، والمحور الذي تدور حوله المسؤولية عن جميع المنجزات الوطنية. تنامى العطاء والتميز، فتعاظم البناء وأشتد عوده، حتى أينع وطرح ثماره بالمنجزات التي تُسَّطر يوماً بعد يوم افرازات مستمرة لمسيرة وطن، فمن زرع فله حق الحصاد، ومن بذل بسخاء فله الرقي، ومن يُعطي فله المكانة المستحقة بين الأمم الرائدة في النهوض بالتنمية الإنسانية ومستحقاتها الدولية.

يُعد التميز في البحث العلمي على المستوى العالمي، تتويجاً لجهود حثيثة بُذلت، ولنفقات سخية سُخرت، لخدمة التعليم في أعلى مستوياته؛ بالبحث العلمي تُحصد الدرجات العلمية العليا، وبه تكون الترقيات العلمية للأكاديميين، وعليه تستند كثير من مسوغات التعيينات الوظيفية والمناصب القيادية، وبسببه ترتقي الأمم وتتحول من دول نامية إلى دول متقدمة، وتلك المكانة تنتزعها الدول استحقاقاً، بانضمامها لمجموعة الدول المساهمة في تقديم المعرفة الإنسانية وتصديرها للعالم، فبعد أن كانت تستورد المعرفة ومنتجاتها، أصبحت تشارك العالم المتقدم في تنافسه العلمي المحمود في الاستفادة من العلم ومخرجاته، بالاستثمار في محتواه وتطويره إلى منتج تطبيقي، يمكن تداوله بتفعيل نتائجه وتنفيذها عملياً لتضيف زخماً ورصيداً لمحصلة الحضارة الإنسانية.

وكما أن هناك معايير منهجية علمية للتميز البحثي والنشر العلمي، فإن هناك ممكنات مؤسسية داعمة لانطلاقته وإبداعاته، وإذ يعد الالتزام بجودة الأبحاث العلمية وموثوقية أوعية النشر الخاصة بها، من المتطلبات الأكاديمية التي تتطلع إليها الجامعات ومراكز الأبحاث المتميزة، فإن ذلك مرهون هو الآخر بنظام مؤسسي وأكاديمي يتمتع بالجودة والتميز والنزاهة العلمية، سواء بجودة المشرفين على تلك الأبحاث بدايةً لتحصيل الدرجات العلمية المستحقة، أم بمثابرة الباحثين أنفسهم باستمرارية العطاء المعرفي المتميز، في إطار من النظام المؤسسي الذي يضمن الشفافية والنزاهة في التقييم والقبول والإجازة للأبحاث المقدمة للترقية ومتطلباتها العلمية، فتلك سلسلة من الأولويات والإجراءات التي تعد المرحلة التمهيدية للتميز العلمي.

وتعد الممكنات المؤسسية الداعمة من المرتكزات الأساسية المساعدة للتميز البحثي، فمن خلال توفير قواعد بيانات عالمية شاملة للعلوم كافة والمعرفة المنشورة، وبتوفير ما يحتاجه البحث العلمي من معامل ومختبرات متخصصة لإجراء التجارب العلمية، بما تتضمنه من أجهزة عالية الجودة في دقتها وحداثتها، فإن ذلك جميعه سيُمكن الباحث من الوصول إلى نتائج تخدم البحث بمتطلباته وتطلعاته كافة، علاوة على ما يجده بعض الباحثين من دعم مؤسسي خاص لأهمية أبحاثهم، فإن ذلك جميعه يصب في صالح التنمية والدفع نحو التميز والإبداع المعرفي.

ومما يستحق الإشادة به - علاوة على التميز البحثي- هو، نوع الموضوعات وعلومها البحثية المطروقة، والذي تم دعمه باستقطاب الباحثين المتميزين عالمياً ووطنياً، لإجراء أبحاثهم في ظل بيئة بحثية متمكنة في جميع متطلباتها، وذلك ما وثقته جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست» عملياً، بعد أن نافست في مراكز متقدمة ضمن أكثر من 100 مؤسسة عالمية، بمخرجاتها البحثية في علوم الأرض والبيئة والعلوم الفيزيائية، كمؤسسة عربية وحيدة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، رغم أن عمرها التأسيسي عشر سنوات فقط، وذلك يعد في حد ذاته استثناءً غير مسبوق على مستوى العالم.

وفي ضوء ذلك التميز العلمي المستحق وبما يضيفه من إنجازات للوطن بمقدراته ومكانته الدولية وثقله الإقليمي، فإننا نتطلع نحو توجيه كثير من موضوعات البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث الوطنية، نحو ما نجده من تحديات تنموية لمعالجتها، ونحو ما نصبو إلى تحقيقه من أهداف إستراتيجية، تخدم بلورة رؤيتنا وتطلعاتنا إلى واقع نعيش منجزاته؛ ولنستثمر مخرجاته في إبداعات صناعية متنوعة، تُمكننا من تحقيق نقلة نوعية في مسيرتنا التنموية، تضيف مكانة لائقة لواقعنا الحضاري، لنحد من حجم الاستهلاك المستورد، ولنتحول إلى استهلاك لمنتجاتنا وصناعاتنا، وبما يُسهم في تحقيق التنوع الاقتصادي المأمول لدخلنا الوطني، وينعكس على تنمية اجتماعية واقتصادية وبيئية مستدامة وشاملة.