عندما ذهبت للمملكة المُتحدة للدراسة، وكان حينها البريد هو عصب الحياة ولا زال، قبل الثورة التقنية اليوم، فكنت أذهب إلى مكتب البريد وأجلس في طابور طويل لحين وصولي لنافذة المُوظف، والذي بدوره يضع الطابع البريدي على الرسالة، بعدما أدفع له قيمة الطابع، ثم يطلب مني الذهاب لرمي الرسالة أو المادة البريدية في صندوق البريد «المشهور بلونه وهيئته» في الشارع، والذي يُمثل مع كبينة الهاتف إرثا حضاريا إنجليزيا ضاربا في الأعماق. لم أثق بشراء كمية من الطوابع ووضعها على الرسالة ومن ثم رميها بنفسي في الصندوق المُجاور لمنزلي دونما الذهاب لمكتب البريد لكسب الوقت والجهد والتعب، سبب سلوكي هذا «حضاري» مُرتبط «بالخدمة البريدية التي أتيت منها آنذاك». قد يقول قائل وما علاقة خبرتك الشخصية بالصحة الإلكترونية؟

تشمل الصحة الإلكترونية «telehealth» الطب الإلكتروني «Telemedicine» والعلاج الإلكتروني «Teletherapy»، بغض النظر عن التسمية فالهدف واحد، وهو ببساطة توظيف التقنية والوسائل الإلكترونية في تقديم الرعاية الصحية، وليس المقصود هو دور التقنية في التشخيص والعلاج والمعلوماتية الصحية. بالرجوع لقصتي مع البريد الإنجليزي فإنه يبدو أن كلا من مُزودي الخدمة الصحية والمُستفيدين منها عندنا، ربما يُعانون أزمة ثقة في هذا النوع من الرعاية الصحية المُستحدثة لاعتبارات حضارية وثقافية وخبرات متأصلة. اعتاد المُمارس الصحي والمريض اللقاء وجها لوجه، الآخر يعرض مُعاناته والأول يسأل، ويتواصل وفقاً لبرتوكول طبي تم تعلمه ضمن مناهج كليته الصحية التي تخرج منها، ومن ثم وبناء على ما يعرف بالحس السريري «Clinical Sense» ومن خلال الاعتماد على التقنيات التشخيصية، يصل المُمارس إلى الاستدلال السريري «Clinical Reasoning» والذي يقوده للتشخيص الدقيق، ومن ثم اقتراح الخطة العلاجية وتنفيذها، النتيجة ثقة حسية «ملمُوسة» تم بناؤها بين كل من المُمارس والمريض، لتأتي الصحة الإلكترونية بواقع افتراضي «Virtual» تُستخدم فيه التقنيات بالصوت والصورة والكتابة، لتنسف ذلك كله، هنا ربما أزمة ثقة مُماثلة لعدم ثقتي بوضع الطابع على الرسالة بنفسي، ومن ثم وضعها في صندوق البريد!

ليست الصحة الإلكترونية وليدة اللحظة، وليست من محاسن تفشي جائحة كورونا، وإنما كانت هناك منذ أكثر من عقدين من الزمن، وفقاً للجمعية النفسية الأمريكية «APA»، ولكن ليست مُفعلة بشكل كبير جدا، لاعتبارات تتعلق بثقة النظام الصحي فيها والمُستفيدين من الخدمة، وكذلك قضايا ذات صلة بالأخلاقيات وسرية المعلومات، ونقص البروتوكولات الخاصة بهذه الرعاية، ورسم الأدلة التشريعية والتنفيذية والتشغيلية لها.


اختلف المشهد اليوم بعد تفشي جائحة كورونا ليُفرض واقعا مُختلفا عن سابق الوضع، وأصبحت الصحة الإلكترونية إلزاما ولم تُعد خيارا في ظل تفشي الجائحة أو ما بعدها. صحيح أن هناك مُمارسات صحية وطبية ليس من المُمكن فيها الاستعانة «بالكلية» بالصحة الإلكترونية، كالجراحات والمُعاينات الحسية والتصوير الطبي والتخطيط الوظيفي وخدمات الطوارئ والعناية المركزة، لكن هناك مُمارسات صحية «ما قبل الإجراء الطبي وما بعده» من المُمكن فيها الاستعانة بالصحة الإلكترونية بداية، والتي تُساهم بشكل كبير جدا في توفير الوقت والجهد والتكلفة المادية والتشغيلية، والعبء الثقيل على مُزودي الخدمة الصحية، وتجاوز المكان في توفير الرعاية التخصصية والمُتقدمة، ليبقى الإجراء الطبي المُحدد هو ما يتطلب وجود المريض في المُستشفى المُتقدم، ومثل هذا يقلل الضغط الهائل على الرعاية التخصصية والمُتقدمة، ويتيح للمُمارس الصحي العمل المريح والذي لا يُفضي لضغط نفسي واحتراق، ليقود لتعدد الأخطاء الطبية ومُعاناة الكادر الصحي. في المُقابل هناك مُمارسات صحية، تشكل الحجم الأكبر من الرعاية الصحية لا تتطلب إجراءات طبية مُباشرة، بالإمكان الاستعانة بالصحة الإلكترونية بشكل مُباشر مثل الرعاية الصحية الأساسية، والصحة النفسية والرعاية الصحية للأمراض المُزمنة، والصيدلة الإلكترونية والصحة الوقائية وتعزيز الصحة والوقاية من المرض الخ.

بدأ نظامنا الصحي كمتطلب لتفشي جائحة كورونا باعتماد الصحة الإلكترونية، من خلال التقييم الإلكتروني لأعراض كورونا «تطبيقات صحية»، ومن ثم بناء القرار السريري بعد نتيجة الفحص الإلكتروني، كذلك هناك مُمارسات صحية افتراضية تُقدم اليوم من خلال الصحة الإلكترونية والتي أثبتت جدواها، والتي لا تقل في جودتها الصحية عن الرعاية الصحية التقليدية في ظل الإقلال من الهدر الصحي على مستوياته كافة.

ما نحتاجه اليوم هو وضع الصحة الإلكترونية موضع التنفيذ الكلي من خلال سياسات تشريعية وتنفيذية وأدلة تشغيلية، لتُصبح رافدا أساسيا للرعاية الصحية وليست بديلة ولا استثنائية، وترتبط مباشرة بالمجلس الصحي السعودي كجهة مُشرعة بضوابط تنفيذية ورقابية وإرشادات سريرية مُحكمة، يلتزم بها مُزودو الخدمة الصحية الإلكترونية. لا شك المردود كبير جدا على القطاع الصحي وعلى من ينشُد الخدمة الصحية، ويُسهل الحصول عليها ويُقلل أعباء التشغيل والانتظار، ويحل العديد من المُعضلات الصحية التي تُثقل كاهل النظام الصحي.