يستشيط حاكم تركيا. يتخبط هنا وهناك. يطالب الآخرين بما يدعي أنه عدالة، ويقدم نفسه على أنه ناصر المظلوم والمنقذ. يُعادي أشخاصاً من الأتراك نظير انتمائهم السياسي. ينتهي بهم الأمر في غياهب السجون. بالتدخلات والبحث عن حروب يلهث وراءها لاستعادة ما يسميه إرث أجداده في الدولة العثمانية البائدة. تلك الدولة التي صغُرت مقابل الأوروبيين يوماً، وأذعنت لتسليم بعضاً من دول شمال إفريقيا إلى أسياد القارة العجوز. فرضت عليها التسليم، وجردت زعيمها من منصبه وصادرت أمواله، وعاش ما تبقى من حياته كسيراً بلا قيمة ولا احترام.

في العام 1923 سُمح للدولة التركية الحديثة بالتأسيس. كان ذلك نتيجة قرار اتخذته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا، أيرلندا، فرنسا، روسيا) يُتيح قيام تركيا، وفق اتفاقية سُميت «معاهدة لوزان الأولى»، على حساب تقليص نفوذ وإلغاء ما كان يسمى حينها بـ«الخلافة العثمانية». نُفيَ الخليفة وأسرته. صودرت جميع أمواله. اشترطت المعاهدة إعلان تركيا دولةً علمانية. منعتها من التنقيب عن البترول. واعتبرت مضيق البسفور الذي يربط البحر الأسود ببحر مرمرة، ممراً دولياً لا يحق لتركيا تحصيل رسوم مالية على المرور خلاله. منتهى الإذلال الذي ورثه الأحفاد حتى اليوم.

الاتفاقية التي قضت على حلم الخلافة، ونحرت «النعرة» العثمانية، من المفترض أن تنتهي وفق ما نصت عليه خلال العام 2023. أي بعد ثلاثة أعوام من الآن. من هنا يمكن فهم الجنون الذي أصاب العصابة الحاكمة في أنقرة، وسعيها لتصحيح مسار الأجداد الانهزامي الذليل، بعد أن سلمت الدولة العثمانية البائدة بموجب تلك المعاهدة ليبيا صاغرةً مُذعنة على طبقٍ من ذهب إلى إيطاليا، وتونس إلى فرنسا. بتقليب وقراءة قليل من أوراق التاريخ العثماني الملطخ بالدماء، يتضح السبب الرئيس للجنون «الإردوغاني» الباحث عن استعادة إرثٍ خائب في ليبيا. أما السبب الثانوي لتلك الهستيريا هو محاولة تطويق مصر، التي أجهضت وقضت على فكرة استعادة مشروع الخلافة، الذي تحقق بوصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر.

إسقاط جماعة الإخوان من حكم مصر على يد القوات المسلحة، كان صفعةً مُدوية أصابت أنقرة بالجنون، وأسهمت في تعرية تناقضات دولةٍ يُفترض أنها مؤسسة على نظام علماني، بينما ترعى جماعات دينية مارقة في دولٍ أخرى. إزاحة الإخوان المسلمين بمختلف مسمياتهم الحزبية وتشكلاتهم، هو أحد المنطلقات لاستمرار التحرشات التركية ضد مصر، التي بلغت مبلغاً خطيراً، من خلال التدخل الذي أقدمت عليه في ليبيا.

ما يُمكن استنتاجه أن زمن السكوت ولى وانقضى. فالمواجهة باتت حتمية باعتبار أن المنطقة أمام مشروعين لا يختلفان عن بعضهما. مشروع الدولة «الإردوغانية»، ومشروع «ولاية الفقية». قد يفترقان في أهمية أو أولوية الأهداف. فالجمهورية الإيرانية تضع استهداف المملكة أولاً، وتركيا تضع مصر أول المستهدفات. كلا المشروعين يُدركان الأهمية السعودية المصرية. ومن أجل ذلك تحالفا لتطويق الدولتين، حتى وإن كان ذلك بدون اتفاق. تقاطع الأهداف كان لبنة التناغم الإيراني التركي. يختلفان في سورية على سبيل الاستشهاد والاستدلال، ويتفقان ضد السعودية ومصر. يمكن ألا يكون اتفاقا إنما تطابق مشروعات.

أنا على يقين أن الدوائر السياسية المغلقة في الرياض، تعمل بكل قوة على دفع القاهرة لاستعادة الدور الإقليمي المناط بدولة كبرى كمصر. فقد أدركت القيادة السعودية أن اللهفة التي يجسدها النظام الإردوغاني بحثاً وراء الحرب في ليبيا، ليست إلا محاولة لكسب مزيد من النفوذ، على أرضٍ جارة لمصر، للإضرار بالأمن القومي المصري، انتقاماً من إفشال مشروع الجماعة. وأتفهم أن الرياض تعي أن الوقت قد حان لوضع حد لتلك المشاريع البائسة وهذا أمرٌ لا مناص منه. وهذا الاتجاه لا يمكن أن يكون من دون دفع القاهرة إلى القيام بدورٍ إقليمي يناسب ثقلها وقوتها البشرية والسياسية والعسكرية. من هذا الجانب يمكن أن تتضح دلالات مسارعة الرياض للتضامن مع القاهرة، بعد دقائق من خطاب السيسي الأخير، الذي كان مفاده أن مصر لن تتجاهل أي تدخل خارجي يمكن أن يطال الأراضي الليبية.

فمصر فقدت ثقلها ودورها السياسي، بعد تنحي الرئيس الراحل حسني مبارك، نظير انشغالها بالشأن الداخلي. ولم يكُن أداء جماعة الإخوان المسلمين التي حكمت مصر بُرهةً من الزمن مرضياً، باعتبار الجماعة بعيدة كل البعد عن السياسة، كونها تقوم على نهجٍ «دينيٍ فاشي»، لا هدف لها أكثر من تكريس مفهوم تقديس منهجيتها. بينما انشغلت القيادة المصرية الحالية بإصلاح ما أفسدته فترة حكم الجماعة، وخلفه زوالها عن الواجهة في مصر.

واهمٌ وضالٌ عن الحقيقة من يتصور أن مصر ستتحلى بمزيد من الحكمة أمام مشروع التمدد التركي، الذي بات على حدودها الغربية. ومخطئ تماماً من يُخال إليه أن المملكة قد تتخلى عن الاستقرار المصري، أو يمكن أن تسمح بتعرض الأمن القومي المصري لأي أذى أو اختلال. تحويل العالم العربي إلى مساحةً مفتوحة لتقاسم النفوذ «الإيراني – التركي» وخلط الأوراق وبناء الولاءات خطر يهدد المنطقة بأسرها. وهذا ما بات مُدركاً في الرياض والقاهرة.

في نهاية المطاف يجب أن تُدرك أنقرة ومن يؤيدها في حرب استعادة الإرث العثماني، استحالة إعادة ما يمسى بـ«مشروع الخلافة» انطلاقاً من ليبيا، مهما افتعل «العصملي» من حروب. وفي ذات الوقت يفترض أن تعي جماعة الإخوان المسلمين وقواعدها الشعبية «المُندسة»، أنه مهما اجتهد «المتباكي السفاح» رجب طيب إردوغان في تركيا، والـ«كاشير» تميم بن حمد في الدوحة، و«كهل» حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، وإخوان الكويت من «المُتصابين»، فلن يستوعبهم إلا سلة مهملات التاريخ. قولاً واحداً لن يُقبلون ولو في «بطن تمساح».