تروضنا وسائل التواصل الاجتماعي "الفيسبوك وتويتر والواتس آب" وبقية القنوات الاجتماعية بصورة عجيبة، فكلما ظننا أننا قد تملكنا قيراطا من مساحاتها المترامية، وجدنا أنفسنا في فضاء التشرد وقد اضطرب فينا ذلك اليقين الذي تسربلنا به طويلا بشأن أمور كثيرة من بينها أطراف الإنتاج والتلقي، والحدود الزمنية للتفاعل الثقافي حول أي نظرية معرفية ووفرة مصادر المعرفة المغذية للحوار إلى غيره من عناصر الحراك الثقافي وتبادل المعرفة..

ففي الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن الفيسبوك وتويتر مثلا، يشبهان العالم من حيث تنوع المجتمع وبيئاته كما في الكثير من الجوانب، إلا أننا وجدنا أن هذه فرضية جزئية غير مكتملة، فالعالم خارج الفيسبوك وتويتر ووسائل التواصل عموما بصورته التقليدية، موجود بصورة منفصلة جزئيا عن اللحظة، فلا تشعر به لا من حيث التأثير الكلي عليك، ولا من حيث التفاعل المستمر والشامل بينك وبينه، ولا من حيث الانسجام مع الأطر الثقافية التي تنتجها وينتجها محيطك..

لقد أصبح التغيير الكبير الذي أحدثته هذه الوسائل الاتصالية هو السمة الأبرز، حيث طال هذا التغيير أساليب الحوار وميادينه التي تحتضن هذه النقاشات، وأوقات وزمن الحوار وآلياته المختلفة، وأركان وعناصر الرسالة من حيث الإرسال والاستقبال وقنواته المتعددة، حيث تغير كل ذلك مع وسائل التواصل وأصبحت الكثير من قناعاتنا ومعتقداتنا حيال ذلك من الماضي..

ولهذا عندما اجتاحتنا هذه الوسائل، أصبحت اللحظة طويلة لا يمكن تقسيمها أو تقسيم الزمن إلى ماضي وحاضر ومستقبل بالصورة التقليدية بل أصبحت اللحظة فضاء وربما حتى ثقبا أسود تبتلع كل الرؤى والمعتقدات وتقاربها وتشتتها وتصبح مسطرة الزمن هنا مسطحة تستوعب كل القياسات ولا يمكن لها بحال من الأحوال أن تعطي قياسا أو مساحة ثابتة كما في الوسائل التقليدية للحوار والتلقي في الماضي..

فتأتي استجابات الناس لأي حدث معرفي واسعة طويلة بطول الزمن، وتصبح عمليات تغذية موضوع النقاش بالمستجدات عملية دائمة، وهنا يأتي دور التراكم المعرفي ليمدد زمن الحوار بصورة تستدعي التفاعل مع أي جديد باستمرار ودون توقف..

إننا نعيش زمنا تبدو فيه ذروة المؤشر البياني وأشد حالاته هبوطا - بالنظر لوعي المتلقي ولتسارع المعلومة - متأرجحاً سريع التبدل ولا يمكن الجزم بحدود هذا التغير هبوطا وارتفاعاً، ولا معرفة أين انتهى الحوار الذي كان يُحد بزمن في الماضي بوسائله التقليدية بينما مع وسائل التواصل يبقى مفتوحا طوال الوقت، والحالة التبادلية للأفكار تحدث بصورة تفاعلية شديدة السرعة بين منتج الأفكار ومتلقيها، بصورة تجعل الطرفين في حالة تبادلية مستمرة للإنتاج المعرفي دون توقف، سواء في منشور بعينه أو في إطار معرفي أوسع، وأصبح المتلقي هنا يتفاعل ضمن اتجاه جمعي تذوب فيه ذاته البسيطة، لتصبح جزءاً من حالة كبيرة يقاس حجمها بذلك التفاعل الممتد عبر الزمن المفتوح..

إننا نحتاج فعلا للكثير من القدرات الذهنية والنفسية والثقافية للتفاعل النشط والإيجابي، لاستيعاب هذا التسارع في التغيير المعرفي المرن والمرهق أحيانا ولكنه الممتع في ذات الوقت، لنصبح في حالة من الاستيعاب لهذه التبدلات التي تسهم ولا شك في إثراء الثقافة الإنسانية كمشترك يمكن أن نبدأ منه حوارا متقدما حول كل ما يسعد البشرية، ويعيد بنا أنساق التفكير البشري بما يعزز وحدة كل الناس بآمالهم وطموحاتهم ورغباتهم وأحلامهم، بعيدا عن الهشاشة التي أوجدتها أطر الماضي الثقافية المحدودة والمنغلقة على حدود الأيديولوجيات أو الإثنيات التي وزعت العالم إلى فرق متضادة في الاتجاهات، وأصبح نتاج ذلك صور فناء وإقصاء وسيادة وعبودية هنا أو هناك، أما في وسائل التواصل الاجتماعي فالفرصة مواتية لانتصار الإنسان كمكون حضاري بإمكانه التحرر من التأثيرات السلبية لأيٍ من المتغيرات الأيديولوجية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية الإقصائية، وصولا إلى حالة من التناغم مع الذات والآخر بالقدر الذي يتيح التفهم والتفاهم لجميع المتواصلين في هذه الوسائل..

ربما نحن في حالة حلم، لكنه حلم لذيذ وقريب جدا من التحقق، هكذا نؤمل حتى إن واجهتنا بعض المشكلات لكنها الأنفاس الأخيرة لعالم يوشك أن يصبح من الماضي الذي يتجه للتلاشي والانحسار..

نكاد نبصر في آخر النفق نورا يؤكد انتصار الإنسان على كل التعقيدات التي أوجدتها البشرية في حراكها الطويل نحو الانعتاق من سيطرة الموجهات التي انبثقت من حالات التعقيد الكبرى والمخاوف البشرية التي رأت أن الأمان موجود داخل تلك الأسوار والحصون التي شيدتها حول نفسها وقامت بشيطنة كل من هو خارج تلك الأسوار، لقد آن للبشرية أن تعيد بناء النسق الإنساني في ذاتها شيئا فشيئا عبر هذه الوسائل الاتصالية تحقيقا لذاتها وتوافقا بين جميع أفرادها ومجتمعاتها، والفرصة متاحة لذلك، ونؤمل أن يكون حصاد هذا الغرس مثمرا وأن يمتلئ البيدر بغلال الحب والمودة والثراء وإعمار الحياة بكل جميل مفيد.