من مشكلاتنا، ولنقل معوقاتنا الفكرية، أننا لا ننظر إلى دوافع الفرق، والطوائف والمذاهب من منظور سياسي بحت؛ وإنما نركز على استصحاب مقولاتها الفكرية والدينية، فنُقيِّمها من خلال تلك المقولات، دون أخذ الدافع، أو السياقات السياسية في الاعتبار!

حدث ذلك في القديم، كما في الحديث. فنحن لا ننظر إلا إلى الراية التي يرفعها هذا الحزب، أو ذاك، هذه الفرقة أو تلك، دون استحضار ما خلف الراية، أو لنقل: ما يرفع الراية ويحركها.

لقد اتخذنا موقفا عقديا من الفرق الكلامية القديمة، اعتمادا على ظاهر مقولاتها؛ ولم نعر اهتماما للسياقات السياسية والتاريخية التي أنتجت مقولاتها في ظلها، وهذا خطأ معرفي بنيوي عظيم.

جماعة «الإخوان المسلمون»، منذ نشأتها في الثلث الأول من القرن المنصرم، على يد مؤسسها (حسن البناء، ت 1949)، وهي حزب سياسي بامتياز. حزب نشأ ليمارس السياسة في الدين، ولهدف لا يزال يشكل حجر الزاوية بالنسبة لكل مشاريع الجماعة وأعمالها، ألا وهو الوصول إلى سدة الحكم، في البلد الأم: مصر أولا، ثم في باقي الدول العربية والإسلامية لاحقا. ولم تستنكف الجماعة خلال مسيرتها الطويلة نسبيا، عن التشبث بأي أدوات، أو ممارسات، أو إيديولوجيات يمكن أن توصلها إلى هدفها، بما في ذلك أشدها ميكافيلية.

لقد أخطأنا في الماضي حين تعاملنا مع الإخوان على أنهم جماعة دعوية فحسب، الأمر الذي أدى إلى تغلغل أدبياتهم المغلفة بغلاف سياسي في مناح عدة. ولم نكن حينها مهيئين ذهنيا لإعادة زرع مقولاتهم، حتى الدعوية منها والاجتماعية، في الأرض التي تشكلت فيها بادئ الأمر، حتى ندرك أنها حزب سياسي، لا يفرق في شيء عن الأحزاب السياسية الأخرى، من حيث مباركة أي مطية، مهما كانت موغلة في الميكافيلية، طالما يرجى منها أن تكون خطوة على طريق الوصول إلى كرسي السلطة.

ومع ذلك، فإن الإخوان، منظورا إليهم من زاوية حزبية بحتة، أخطأوا في لعب الدور الحزبي ضمن شروط الأحزاب السياسية، ذات البطانة المدنية، لأنهم كانوا، ولا يزالون، يسلكون مسلكا أُحاديا، مصبوغا بصبغة دينية ظاهرية، توهم أتباعهم بأنهم وحدهم على طريق الحق، وأن غيرهم، بما فيهم الأحزاب التي ترفع يافطات إسلامية، ضالون مضلون.

ولقد نستبين صدق ما نقوله هنا عن حصرهم الحق بجانبهم، حتى تجاه من يرفع شعار الإسلام مثلهم، عندما نتذكر ما حصل خلال الانتخابات البرلمانية المصرية، التي جرت في أواخر عام 2011. فلقد ضاق الإخوان ذرعا بحزب النور السلفي، الذي دخل الانتخابات فجأة، بعد أن كان يؤكد ابتعاده عن السياسة، إذ نقلت الصحف المصرية حينها انزعاج مرشد الجماعة السابق (محمد بديع) من بلاغة وقوة الدعاية السياسية للسلفيين؛ إلى جانب امتعاضه من نسبة فوزهم في البرلمان.

من جهة أخرى، فإن الإخوان عملوا، منذ صعودهم على المسرح السياسي، على تكثيف الولاء السياسي لهم، وبأن الولاء للمرشد، وللجماعة عموما مقدم على كل الولاءات. ولذلك، فإن من أسوأ تأثيرات الإخوان على الوسطين العربي والإسلامي تكريسهم مبدأ أولوية الولاء للحزب، على الولاء للوطن. بل إن الوطن، بمفهومه الفلسفي الحديث، لا وجود له في أدبياتهم. ولذا، لا نعدم من بيننا أتباعا لهم يهيمون حبا بأنظمة سياسية ذات بطانة إخوانية، على حساب ولائهم لبلدانهم الأصلية.

لا نزال نتذكر، مثلا، وقوف الإخوان مع صدام حسين في غزوه الكويت؛ فتستعيد الذاكرة ما كان يتبجح به أحد أساطينهم: راشد الغنوشي من تأييد مطلق للرئيس العراقي في اجتياحه الكويت، ومع ذلك يرحب به، أي الغنوشي، لزيارة الكويت، دون أي خجل من إخوانها، على الرغم من أنهم كانوا قد أطلقوا على الدول التي وقفت مع صدام حينها بـ«دول الضد». وعلى الرغم من أن الإخوان كانوا على رأس هذا الضد، إلا أنهم سلموا من التصنيف، ما يدل على تغلغل الولاء للحزب، وفي ذلك تكريس وتأبيد لتفتيت الأوطان، تحت ذرائع شيطانية ملتحفة بشعارات دينية، والدين الحق منها ومن أهلها براء.