الفوضى غير الفوضوية، فالفوضى تعني غياب النظام في أي مكون مادي أو معنوي، وفقدان الترابط بين أجزاء المجموع،

أو اختلال العلاقات داخل أي تكوين بشري أو فيزيائي أو سياسي، بينما الفوضوية حركة سياسية وتيار فكري كان لها حضورها في الأحداث المهمة في أواخر القرن التاسع عشر، ولها فلاسفتها المنظرون لها، كما نشأت لها أدبيات في الفلسفة والفكر والسياسة والاجتماع، بعد أن كانت مجرد حركات اجتماعية غير منظمة تبحث عن العدالة والمساواة الاجتماعية، وتتراوح بين الحالة السلمية واللاعنف والعنف ثم العنف المسلح.

وعندما قام ديريك تشوفين بقتل جورج فلويد في مايو الماضي في مينيسوتا قامت مظاهرات سلمية كردة فعل على الحادث، تطورت إلى أعمال شغب امتدت إلى عدة ولايات أمريكية، وإلى عدة دول في أوروبا وغيرها، هذا الامتداد السريع والمرتب أثار في الذهن أن الأمر أكبر من مجرد ردة فعل غاضبة، وساعد على ذلك أمران أولهما: اتهام الرئيس ترمب جماعة أنتيفا بوقوفها خلف حالات الشغب والاعتداء واتهامها لحكام الولايات من الديموقراطيين بغض الطرف عنها، وتهديده بتصنيف أنتيفا منظمة إرهابية.


والأمر الثاني: ما حدث في سياتل بولاية واشنطن حين قام المتظاهرون بالسيطرة على وسط المدينة، حيث أنشأوا منطقتهم المستقلة ذاتياً وأطلقوا عليها اسم «كابتول هيل المستقلة»، وكتبوا على مدخلها لافتة «أنت الآن تغادر الولايات المتحدة الأمريكية»، واستبدلوا كلمة شرطة بكلمة «شعب» في المقرات، وبعد عشرة أيام من المواجهات معهم قرر عمدة المدينة ترك المتظاهرين يقيمون منطقتهم، وانسحب ممثلو الولاية من شرطة وعاملين في البلدية إلى الخارج، ولم يستطع ترمب التدخل واكتفى بالتغريد واصفاً الذين أقاموا المنطقة بـ«الإرهابيين الداخليين» مضيفاً أنهم سيطروا على سياتل التي يديرها الديمقراطيون الراديكاليون، وقال في تغريدة أخرى: إلى رؤساء البلديات والمحافظين الديمقراطيين هؤلاء الناس هم الأناركيون، اتصلوا بالحرس الوطني لدينا الآن، العالم يراقبكم ويضحك عليكم وعلى النائب جو بايدن هل هذا ما تريده أمريكا؟ لا.

غير أن هناك وجهة نظر أخرى عبر عنها أحد المغردين بقوله: إن الناس كانوا يتوقعون أن تعم الفوضى المنطقة عندما تنسحب الشرطة، ولكن بدلا من ذلك أضحى المكان فضاء للكلمة الحرة، وتوزيع الغذاء مجانا، والناس يساعدون بعضهم البعض.

ما حدث في سياتل ومدن أمريكية أخرى وفي فرنسا وحوادث محدودة في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا يطرح أسئلة عدة عن التنظيمات التي تقف وراءها، والفكر الذي يحركها وعلاقة الحزب الديموقراطي بها، وحركة الحقوق المدنية التي ظهرت في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر متزامنة مع مثيلاتها الأوروبية، والحركات المضادة التي قامت مثل حركة الكوكلوكس كلان KKK والمنظمتين اللتين سماهما صراحة أنتيفا والأناركية، كما أعادت إلى الأذهان حركة الهيبيز والبانك روك في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

التحليلات التي ظهرت في أعقاب مقتل فلويد وركزت على أنتيفا والأناركية وحركة اللاسلطوية العنفية واللاعنفية لم تر أبعد من أنفها، فهي وإن كانت غير مخطئة في الربط فإن الموضوع أبعد من ذلك، لأن التحليلات منقطعة عن جذرها الأساسي وهو الفوضوية التي يجهل معظم المحللين فلسفتها الاجتماعية، والجذور التي تمتد إلى كثير من الحركات التي أتت فيما بعد، فما هي الفوضوية؟.

بدأت الفوضوية كتيار سياسي واجتماعي في القرن التاسع عشر بمظاهرة طلاب المساواة بقيادة بابوف، وفي بيانهم الشهير الذي اكتسب شعبية كبرى عام 1828 للميلاد كان الطلاب يرفضون المساواة التي جاءت بها الثورة الفرنسية، مؤكدين أنها مجرد حلم جميل عقيم من أوهام القانون، ورفضوا المساواة السياسية «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، وطالبوا بالمساواة الاجتماعية التي جاءت في إعلانهم العاطفي «تلاشي أخيرا أيتها الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين كبار الناس وصغارهم، سادتهم وأرقائهم، حاكمهم ومحكومهم».

وتمتد جذور الفوضوية إلى ما بعد الثورة الفرنسية التي أدت إلى انتصار الليبرالية الأحرارية (المبدأ الاقتصادي الفردي الحر) ورفعت شعار مبدأ الحرية المقدس، لكن أتباع الفوضوية رأوا في هذه الحرية سرابا خادعا، لأنها حافظت على الملكية الخاصة فهي حين تضمن استقلالية الملاك الأثرياء تكرس عبودية المعدمين الكادحين، ففي حين يرتكز التنظيم السياسي على المبادئ الثلاث الخالدة: الحرية والأخوة والمساواة فإن الحياة الاجتماعية الواقعية تقع تحت ضغط الرق الاقتصادي والجور الاجتماعي، وهنا يكمن تناقض الليبرالية، وفي هذه النقطة اقتربت الفوضوية من الاشتراكية ضد الليبرالية لكنها تفترق عنها في أنها ترفض الدولة، وترى أنها هي سبب المظالم الاجتماعية، ولذلك اعتبرها الاشتراكيون ظاهرة طفيلية عليها.

ومع أن الفوضوية عبرت عن نفسية الإنسان في القرن التاسع عشر الذي يحس أعمق الإحساس بمظالم الحياة الاجتماعية بعد أن لوحوا له بسراب الحرية، ويظن أن الدولة هي سبب المظالم فينصرف عن الدولة أو يثور عليها ثم ينطوي على نفسه، ولذلك وقعت الفوضوية بين كرسيي الليبرالية والاشتراكية، حيث إنها ولدت من تناقضات الليبرالية، ولكن الاشتراكية تجاوزتها حين رأت أن الدولة تستطيع أن تفرض قيم الحرية على المجتمع فرضاً بناءً وتاماً حسب رأي هنري أرفون.

وظهر عدد كبير من فلاسفة الفوضوية وواضعي نظرياتها أشهرهم الإنجليزي وليم جودوين، والألماني ماكس ستيرنر، والفرنسي برودون، والروسي ميشال باكونين، ويرى ستيرنر (1856) الذي استهل كتابه بعبارة: لقد ركزت قضيتي في اللاشيء، ضرورة تدمير الدولة والمجتمع والأخلاق لأنها كانت في نظره أوثانا، وشجع الأفراد على استعادة ما فقدوه من ملكيات، وأطلق مقولة «أخلاقية التمتع الشخصي» أو ما يعرف بالأنانية الفوضوية.

وكانت بداية نهاية الفوضوية عندما دخلت في مرحلة الجريمة الفوضوية التي عبر عنها نيتشاييف بقوله: لا قيمة للكلام في نظر الثوري إلا إذا أعقبه العمل فورا، علينا اقتحام حياة الشعب بسلسلة من المؤامرات اليائسة المجنونة لكي نحمله على الإيمان بقدرته ونوقظه ونقوده إلى النصر، ولذلك قام الإرهابي الروسي كاراكازوف بإطلاق النار على إمبراطور روسيا ألكسندر الثاني 1865، وقام الفوضوي الإيطالي كازيريو باغتيال الرئيس الفرنسي سادي كارنو عام 1894، حتى صدر قانون محاربة الحركة الإرهابية الفوضوية عام 1893، وبعدها ماتت الحركة تنظيما ولكن فكرها خبا فترة لتظهر تجلياته في عدد من الحركات الاجتماعية الشبابية الرافضة اللاعنفية، مثل البانك روك الذي أصبح منذ عام 1977 ظاهرة ثقافية أساسية في بريطانيا، وانبثقت عنها ثقافة البانك التي عبرت عن تمرد الشباب من خلال أساليب الملابس والزينة المميزة مثل القمصان المسيئة، والسترات الجلدية، وعصابات الرأس وغيرها.

وفي المقابل ظهرت حركات عنفية مثل أنتيفا Antifa هي حركة يسارية ضد الفاشية والنازية واليمين المتطرف، وتميل إلى الأفكار الشيوعية والاشتراكية واللاسلطوية مع بعض الأفكار الليبرالية، ويظهرون ملثمين باللباس الأسود ويلجأون إلى العنف الجسدي وتدمير الممتلكات والضرب والتحرش بمعارضيهم والتشهير بهم، وظهروا بشكل واضح بعد إعلان ترامب ترشحه للرئاسة الأمريكية ثم فوزه بمنصب الرئاسة.

ثم الأناركية Anarchism وهي فلسفة سياسية ترى أن الدولة مضرةّ، وتدعو لمجتمع بلا دولة أو على الأقل إلغاء تدخل السلطة في سلوك العلاقات الإنسانية، وهناك غيرها كثير لكنها تغرف من معين الفكر الفوضوي.