لم تكن جريمة سعد الجبري بالأمر الهين، فلا تعَد القضية مُجرد فساد مالي فقط، وهذا لا شك يُعتبر مُصيبة، كونه اختلاسا للمال العام، وإنما كانت جريمة مُركبة، كونه كان مسؤولا كبيرا في وزارة «سيادية»، وضابطا كبيرا ومُستشارا أمنيا، ومسؤول ملف الإرهاب. ما أريد الولوج فيه هو الحديث عن «سيكولوجية الموقف والرجل»، وليس الحديث عن «سعد لسعد في ذاته»، ومن ثم التعريج على الدروس المُستفادة منه. فرغم قبح الحدث وفظاعته فإن هناك وجها آخر يجب قراءته والتركيز عليه. على الصعيد النفسي، فسعد الجبري وقف مرتين للقسم، الأولى، عند تخرجه في المسار العسكري، والثانية، عندما تقلد منصبه العالي في وزارة الداخلية، وكلاهما «قسم لو تعلمون عظيم»، كون القسم كان بالله العظيم وليس بغيره «كالشرف» مثلا، وتجاوز هذا القسم جرم فادح نتيجة خلل سلوكي، وهذا شأن سلوكي صرف، يُعود «لسمات وخصائص شخصية الرجل» في تجاوزه للقسم أصلا، وهذا التجاوز لم يشمل مُجرد الفساد المالي فحسب، وإنما الأمر امتد لحمل فكر «راديكالي» صنفته الدولة كفكر إرهابي مُتطرف، اكتشفت الدولة «أعزها الله» فداحة هذا الفكر المُتطرف وما يسعى إليه وما هي غاياته والتي تقف جميعا كقاعدة كبرى «لأكبر خيانة وطنية»، ألا وهي إسقاط الدولة والدخول في الهرج والمرج «للجنهم العربي». تمتد حلقات مُسلسل الجرم في دعمه لذات الجماعة ورموزها وارتباطه بشخصيات التنظيم، وارتباطه أيضا برموز عدائية وقوى خارج المملكة مُعادية أسهمت ويسرت خروجه خارج البلاد، وهذا شأن سلوكي آخر، ما زال الحديث مُتصلا، الرجل حمل اتجاهات العداء والكره لوطن ولد فيه ونما وترعرع على أرضه وتحت سماه، تعلم وعمل فيه، فلم يكن مُواطنا مُهاجرا استقى «ثقافة الآخر» ثم عاد للوطن بفكر مُختلف، تُمثل الجميع خيانة للوطن، هنا اتجاه سلبي للوطن وسلوك خيانة لا يقل عما سبقه، ثم ترك البلد وولى هاربا تجاه دولة تكن العداء لهذا الوطن، ووكر خبيث لكل من أعلن عقوقه لوطننا الحبيب، والذي وسع الجميع بصدر حنون وربى الجميع بيد حانية، وحافظ على الجميع بسواسية وعدل، ومكن الجميع من التعليم والارتقاء والتطور للمساهمة في البناء بلا تمييز. هروبه بهذا الطريقة خيانة سلوكية عظمى»، وهذا شأن سلوكي من نوع آخر ثقيل! على العموم ليست قضيتي في هذا الطرح «سعد الجبري» في بعده الشخصي فحسب، فأمثال الجبري «كُثر» وللأسف، مُتفقون في «النوع» ومُختلفون في سلم درجات الجرم والتعدي، وما زالوا للأسف يعيشون بيننا ومندسين في صفوفنا «كالأفاعي والحرباوات» يتشكلون بالليل والنهار، يحسبون كل صيحة عليهم، هم أعداء الوطن، لعلمي أن الدولة «أعزها الله» سوف تسعى لعودته ومُحاكمته شرعا على كل الجرائم التي اقترفها، وساعية لاجتثاث هذا الفكر ومُحاربة الفساد بصوره وأشكاله كافة. القضية هنا تتعلق فقط «بالتحليل السلوكي» لظاهرة «الرجل» في فكره وسلوكه وانتمائه واتجاهاته، وماذا علينا فعله علاجا من هو على شاكلته، ووقاية للجميع من هذا النهج السلوكي المرضي الخطير.

هناك دروس مُستفادة من هذا الجرم العظيم الذي اقترفه «الجبري»، منها ما يتعلق بمدى تغلغل هذا الفكر الإخواني «الراديكالي» الخبيث في مُؤسسات ومفاصل الدولة خلال العقود الماضية، ليشمل الأمر دراسة الواقع النفسي بعمق وتحديد سمات وخصائص شخصيات من تُوكل لهم الدولة «أعزها الله» صناعة القرار والمهام الجسام، وكذلك الولوج في طبيعة نهجهم الفكري في شكله ومحتواه وسلوكياتهم المُعلنة والمخفية وانتمائهم الديني والفكري، ومعرفة اتجاهاتهم نحو أنفسهم ومن يُحيط بهم ونحو المُجتمع والدولة، وصولا للتعاطي الموضوعي مع حسهم الوطني وصدق المُواطنة والانتماء.

مثل هذا يأتي من خلال صياغة «بروتوكولات نفسية دقيقة» لمن تُسند لهم المهام القيادية التنفيذية في شتى القطاعات، لتصبح يوما ما تشريعا وطنيا مطلوبا من الجميع تأديته كمطلب وظيفي، لوطن آمن ومُستقر ومُزدهر. يشمل البروتوكول النفسي التقييم النفسي الشامل لإعطاء انطباع «Impression» نفسي سوي أولي، يقود للجلوس لاختبارات ومقاييس نفسية مُحكمة تتعلق بالشخصية والفكر والمزاج والقدرات الإدراكية والمعرفية، والتي تشمل وظائف الفص الأمامي الجبهي الدماغي «Prefrontal Lobe» التنفيذية، والتي تُمثل أخطر الوظائف النفسية إن كانت «قاصرة أم معتوهة»، كما حصل مع «الجبري» وغيره كثير. يمتد القياس ليشمل الاتجاهات والميول والانتماء وسنام ذلك كله وضع الشخص النفسي المرضي وخبراته الشخصية. يتضمن القياس أيضا قياس المُواطنة والانتماء والحس الوطني من خلال بناء مقاييس نوعية نفسية موضوعية لذات الهدف، وكذلك الخضوع لتحليل نفسي وسلوكي وذاتي وفق محكات نفسية موضوعية، يُسند الجميع عادة لما يُعرف في عالم السياسة والاقتصاد وصناعة القرار ودراسة الرأي العام بفريق الرؤى السلوكية «Behavioural Insights Team».

يأتي مثل هذا كله من خلال «خبراء نفسيين» في مجالات نفسية مُحددة ذات علاقة بطبيعة المهام وتنفيذها وصناعة القرار القيادي وفقا لمُخرجاتها. هنا نضمن، بحول الله، سلامة الوطن ومُدخراته ومُقوماته من خلال سلامة أبنائه في بعدهم النفسي والاجتماعي. للحديث بقية، بحول الله.