الذاكرة المؤقتة في الشأن السياسي لون من الغباء عندما يتعلق الأمر بالشعوب، وليس أقل غباء منه، ذلك التعامل مع الأمور الظرفية المؤقتة بمعيار الأمور المستدامة ذات البعد الإستراتيجي أو العكس، فمن يرى حجم القلق الذي ينشره الرئيس التركي إردوغان يدرك ذلك الغباء الذي أعنيه، فهو يتعامل مع محيط الدولة التركية من الشعوب والدول بدون قراءة الأبعاد التاريخية والحالية بالوعي الكافي الذي يدرك حجم المتغيرات الكبيرة على مستوى العالم، بل يبدو أنه ما زال مأخوذاً بسلطنة الباب العالي في الأيام الخوالي، تلك السلطنة التي تركت من الجراح والأحزان لدى شعوب الجوار الكثير منها والمؤلم، والشعوب لا تنسى جراحها حتى وإن أغمض إردوغان عنها عينيه وأصم أذنيه.

إنّ فرق ما بين الماضي والحاضر هو ما يحتاج إلى إدراكه وفهمه الرئيس التركي ليبتعد عن إدارة الشقوق والجيوب هنا وهناك في دول الجوار، وليتفرغ لإدارة مصالح شعبه محترما في ذات الوقت سيادة ومصائر الشعوب الأخرى، التي لم تعد ولايات «عصملية»، بل أصبحت دولاً ذات سيادة ضمن منظومة دول العالم المعترف بها، وعلى إردوغان مزيد الفهم للقانون الدولي الذي ينظم علاقات الدول.

إن ممارسات الدروشة التي يؤديها إردوغان معتقداً بأنه سيحرز بعض المكاسب من خلال استغلال عواطف البسطاء وضعاف الرأي، والتلاعب بمشاعرهم في الداخل التركي أو في الخارج من خلال الميديا التركية التي تصدر صورته مرة وهو يقرأ القرآن، ومرة وهو يبكي متأثرا بموعظة، وأخرى وهو في حالة سجال مع مسؤول أوروبي وتجيير الحدث وكأنه مجابهة للحملات الصليبية من قبل الفاتح إردوغان، كل ذلك لا يمكن أن يجدي أمام الكثير من صور الدمار والحروب والتهجير والشتات التي تسبب فيها الرئيس التركي في كل مكان وصلت يده إليه، وهو أمرٌ ستدفع تركيا ثمنه عاجلا أو آجلاً من استقرارها واقتصادها نظير ما تسببت فيه من خراب في كامل محيطها، بداية بالعراق، ومرورا بسورية، وانتهاء بليبيا التي فكك وحدة أراضيها بسبب هوسه الماضوي بأحلام السلطنة، وجشعه وطمعه في الذهب بنوعيه الأسود الخطير، والأصفر الرنان، ولطالما أثبت إردوغان أنه ضعيف تجاههما كثيرا.

إن الحالة الإردوغانية القلقة التي تصدر قلقها في الاتجاهات الأربعة تجعل الجميع في حالة تأهب دائمة، خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه، فالكثير من الطغاة نَفَذوا من بوابة التباطؤ وعدم المواجهة معهم قبل استفحال أمرهم، تلك المواجهة التي يجب أن تحدث عاجلا لإيقاف رجل لا يتورع عن نشر الكراهية والاستبداد في كل المساحات في الداخل والخارج.. ولعل الصلاحيات المطلقة التي تحصّل عليها إردوغان في عام 2017 بعد التحول من النظام البرلماني المؤسسي، إلى النظام الرئاسي الذي يعظم من حكم الفرد ويتيح له الانفراد بالحكم بعيدا عن المؤسسة، الأمر الذي جعل الأوضاع تتسارع يوميا على كل الأصعدة، باتجاه الحكم الدكتاتوري المشابه لتلك التحولات المتسارعة التي سبقت ظهور أكابر الطغاة كهتلر وموسيليني وغيرهما، الذين عملوا على تغيير الأنظمة لممارسة صلاحيات واسعة دون الخضوع للقانون، ويكفي أن تجول أبصارنا حولنا لنجد أن كافة العناوين الجديدة التي يصدرها يومياً للداخل والخارج، تؤكد حالة من العنف أو الحلول الأحادية من طرف واحد دون اعتبار لشركاء الحكم من مواطنيه في الداخل أو لدول الجوار فيما يخص علاقاته الخارجية معها، وهي حالة تؤذن بمواجهات قد تفضي إلى مزيد من الأوضاع المأساوية التي يعاني منها كل من جاور الأتراك قديما أو حديثا.