كلما تأملت الراحلين من حولي تذكرت قول الخنساء «ولولا كثرة الباكين حولي» ثم ما ألبث أن أعود القهقرى عن كل قرار حزين، أو لحظة قنوط، لأقول لنفسي ما زالت الفرصة سانحة لأراقب مُضيّ الأيام، وتكرار الفصول، وأنّ ساعة الرحيل لم تحن بعد.. طوال سني العمر المنصرمة كانت حالة الرحيل عنواناً ملتبسا بالمفاجأة، حيث تضرب هذه الحالة بين فترة وأخرى في مضاربنا فَتَشُلُّ أذهاننا عن التفكير المنطقي لبرهة من الزمن، ثم لا نلبث إلا قليلا من الوقت لنربط الأحزمة، ونحلق في فلك الأمل، ميممين أنظارننا نحو آفاق المستقبل بالكثير من الأحلام، وبالقليل من اليقين ولكننا في كل الأحوال نمتلك ابتسامة الثقة الكبيرة، إننا مستمرون في ركوب قاطرة الحياة، دون مخاتلة الوقت، والعمر والحياة، وحينما كانت الأحداث تأتي متقطِّعة، تحمل في طياتها المفاجآت بحلوها ومرِّها، ونحن بين إشفاق وتأميل يطل الأمل علينا متسيداً واجهة أرواحنا وجوارحنا، ويصبح حديث النفس الأكثر ترحاباً أننا سننجو من تلك المفاجأة إلى حين، وأن صفحات الحياة الأكثر بياضاً ما زالت متاحة لنكتب فيها أجمل سطور العمر، وأن بروق الخريف ما زالت تغري بزرع فسيلة تحت وقع رعودها، غير أننا مع الكورونا أصبحنا نخاتل هذه الجائحة، وكلما نجونا منها بقدر الله أنشبت مخالبها في صديق، أو زميل أو قريب أو بعيد، حتى أمسينا نتجرع كأس الرحيل كل يوم مع مغيب شمس كل راحل غادر كرسيه، وترك لنا الفراغ المرّ الذي يذكرنا بأن الأرقام المتسلسلة التي تسبقنا تكاد تنفد لننتظر كل المواعيد التي تأجلت كثيرا ولمّا تعد بعيدة..

أيها الراحلون رفقا بنا، فأنتم ترحلون عنّا وتأخذون معكم أرواحنا، وبعضا من عقولنا وذكرياتنا، وتتركون لنا تلك اللحظات المشحونة بكل المحبة التي تشاركنا، وتلك الآمال التي نسجنا، وتلك الطمأنينة التي كنتم مبررات وجودها، رفقا بكل خلجة قلب، أو نبض روح ما زال يشعرنا أن هناك بعضا من العزاء والسلوى في هذه الحياة، بعد كل مرارات الرحيل التي عصفت بنا بعدكم أيها الرياحين الذين كنتم طيب هذه الدنيا.. أيها الأصدقاء، أيها الأحباب، فضلا إبقوا أحياء في هذا الزمن المنهك، المضجر، المخيف الذي تحصدنا فيه ريحُ صرصرِ الكورونا، التي جعلتنا نتلفت كل يوم لننظر حولنا ولنتأكد أن الأسماء في قائمة الانتظار ما زالت مكتملة، لم يسقط منها أحدٌ، ولم يرحل أيٌّ منا من الأبواب الخلفية دون وداع أخير..

سنبقى نُرَجّي ونؤمل أن الغد يحمل بشائر خير، وأن البلاء إلى زوال، وإن غدا لناظره قريب.