حال اللادولة تخيم على لبنان. والشارع اللبناني لن يعود إلى ما كان عليه. تحلى بالشجاعة وكسر حاجز الخوف وسمى الأمور بمسمياتها. رفض الأنظمة السياسية التي قادت هذه الدولة الجريحة المُتنازعة، انطلاقاً من الرئيس الذي أطلق مفهوم «بي الكُل»، أي والد الكل، وصولاً إلى وقوف اللبنانيين في وجهة حزب الله الذي قفز على الدولة، وخلق له مناخه السياسي الخاص، ومؤيدون من الزعران أرباب السوابق، وزعماء تجارة الحشيش والدعارة. بالمفهوم السياسي، اللبنانيون تقدموا خطوة إلى الأمام، فيما تراجعت الحكومات المتعاقبة وزعماء الأحزاب السياسية عشر خطوات إلى الخلف.

بات المواطن اللبناني أقوى من الأحزاب، والانتماءات. ومن الدولة ذاتها. والخيارات المتوفرة لإنقاذ لبنان باتت شحيحة. المؤيدون سئموا فساد الدولة. والمُمولون كذلك. والمواطن بات أعلى سقف اهتماماته أن ينام في منزلٍ دون أن يتعرض لحادثة كالتي عاشتها العاصمة بيروت قبل أسابيع. بالإضافة إلى حصوله على رغيف الخبز.

وبات من قوائم الطموح أيضاً، وضع حد لسماسرة العقارات ممن نشطوا بعد انفجار مرفأ بيروت، سعياً وراء الحصول على منازلٍ مُهدمة لكسب حفنة من الدولارات، على حساب مواطنٍ جريح، ودولةٍ تُعاني من وصف «اللادولة».

أقسى وأقوى صور سقطات الطبقة السياسية في لبنان، أن يعول اللبناني على رئيس دولةٍ خارجية، كالرئيس الفرنسي الذي أطل مُذكراً بالانتداب الفرنسي.

كان السقوط الأخلاقي الدافع الأهم لعدم احترام الشارع لسياسيي بلادهم. وحالة الارتهان للخارج في ذات الوقت أسهمت في اتساع حجم الفُرقة بين المواطن والدولة. على الرغم من أني أرى أن جميع حالات الارتهان السياسي خائبة، إلا أن البعض منها في دولة تعيسة كلبنان ربما تشكل صورةً حميدة.

قد يُحاججني البعض، ويقول بأن بعض الأطراف اللبنانية مرتهنة للمملكة. الجواب غير صحيح. لاعتبارات بسيطة. لو هناك من هو مُرتَهن للمملكة لكان الوضع مختلفا عمّا هو عليه.

أفهم السياسة السعودية جيداً. والكثير يفهمها. السعودية في عديد المرات من الحروب التي افتعلها حزب الله «المُرتهن» بقواعده الشعبية لإيران، قامت بإمداد لبنان بالدعم دون تفرقة بين سنته أو شيعته أو مسيحييه. وعملت على تعمير المناطق المُدمرة جراء كثير من الحماقات والصبيانية، التي يُقدم عليها الحزب بين وقتٍ وآخر.

أتفهم جيداً أن الحزب يتعمَد استفزاز إسرائيل لافتعال حربٍ مُعينة لتكريس مفهوم المقاومة لدى مؤيديه، وصبيان السياسة من عرب الشمال. باتت ألاعيب الحزب مكشوفة، ومفضوحة ومقيتة. أعود للفكرة الأساسية لكتابة هذا المقال. يُمكنني قراءة الأيام القادمة في لبنان، بحكم معرفتي في هذا البلد الذي لا يتجاوز في حجمه مدينة متوسطة في السعودية، ومعرفتي بكثير من السياسيين هناك وعلاقتي الشخصية بهم، أتصور أن لبنان يعيش حالة فقدان هوية سياسية، تجعله بُقعة تعيسة من الأرض بشعبٍ بائس. من يُعول على دولة اسمها لبنان فهو ذو راهنٍ خاسر.

من هذا المنطلق يمكنني القول إن أمام لبنان وفق فهمي البسيط، ثلاث صور يُمكن أن تُشكل واقع الحال في ما كان يُسمى بالدولة اللبنانية. أولها عودة الفرنسي إلى بقعةٍ يعتبرها ضمن أملاكه. هذا إن تبقى من تلك الدولة ما يمكن أنه نصفه بهذه الصفة. الثاني انتشار الفوضى ونبذ الآلية السياسية التي تحكم لبنان بعد حربٍ أهلية استمرت خمسة عشر عاما، وبالتالي تصدر الجيش للمشهد العسكري والسياسي باعتباره الضامن والحامي الأساسي لما تبقى من شعبٍ مكلوم. ثالث التوقعات وهو الأقسى، الانقياد إلى حرب لا تُفرق بين مُخلص ومأجور. هذه التوقعات التي وفق قراءتي للوضع السياسي اللبناني لا مفر منها ما لم تنصع القوى السياسية لمطالب الشارع اللبناني.

في السطور المُتبقية، أعتقد أن على اللبناني البسيط فهم سياسيي بلاده. فهم بلا مبدأ ولا قيمة أخلاقية ولا إنسانية. من هذه الزاوية يمكن استحضار قول عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم قبل أيام في حديثٍ موسع، إن «حزب الله حملّه رسالة إلى السعودية عام 2006، تتضمن طلب التمويل والدعم مقابل التخلي عن الحضن الإيراني».!