يُعد العنف الأسري أحد المشكلات الاجتماعية المقلقة في كافة المجتمعات، لذلك يجب التعامل معه باعتباره جزءا من ظاهرة أعم وأشمل من حدود الأسرة وعلاقاتها، حيث إن هذا النوع من العنف بات يهدد الأمن والسلامة للأسرة والمجتمع على حد سواء.

فالعنف موجود ـ وإن كان يقل في المملكة نظراً لجهودها الوقائية - في معظم المجتمعات البدائية والمتحضرة، الغنية والفقيرة، لكن هذه الظاهرة لم تكن تُناقش في الماضي بشكل علني لنظرة معظم الناس إليها باعتبارها "أمور عائلية خاصة".

ويحدث أن تبقى بعض جرائم العنف الأسري طي الكتمان، أي في إطار الأسرة التي وقعت فيها، أو حتى بين مرتكب الفعل والضحية دون علم باقي أفراد الأسرة، وبالأخص "العنف النفسي"، ولا يَعتقِد الضحية في كثير من الأحيان أن ما يُمارس عليه يعد نوعا من العنف رغم ما يعانيه جراء هذه الممارسات، نظراً لقصور في الوعي العام بطبيعة وأنواع العنف، مما يؤدي في النهاية إلى عدم وضوح حجم المشكلة الحقيقي في المجتمع، ويجعل كل الإحصاءات القائمة لا تعكس الواقع بشكل دقيق.


ويمكن القول إن العنف الأسري في معناه العام يشمل أي اعتداء أو إساءة حسية أو معنوية أو جنسية أو بدنية أو نفسية من أحد أفراد الأسرة تجاه فرد آخر، ويكون فيه تهديد لحياته وصحته البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية، وماله وعرضه.

والعنف النفسي يأتي غالبا مرافقا لكافة أنواع العنف الأخرى، ويأتي منفرداً كذلك، ومن صوره الإهانة والحط من قيمة الضحية أو إشعاره بالخجل ودفعه إلى فقدان الثقة بالنفس.

عنف متخف

توصَّلت دراسة أعدها الدكتور محمود حسان عبيدو بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، إلى أن العنف النفسي أكثر أنواع العنف الأسري صعوبة في القياس والتحديد وتتبع الآثار المتوسطة وبعيدة المدى، نظرا لارتباطه بالمشاعر والأحاسيس الداخلية للإنسان، والتي يصعب على غير المختصين كشف ما يترتب عليه من ضرر نفسي يطال الفرد.

ويقول الدكتور عبيدو، إن العنف النفسي من أشد أنماط العنف الأسري خطورة، إذ أنه لا يترك أثرا ماديا على الضحية وهو النمط الذي يتم على صيغة الشتائم والسباب والإهانات الجارحة، وما يزيد من خطورة الوضع، صعوبة إثبات مثل هذا النوع من العنف أحيانا إذا ما أراد الضحية اللجوء إلى السلطات المختصة.

وفي نفس الوقت تزيد ضرورة تتبع هذا النوع من العنف ومواجهته وعلاج آثاره لكونه أكثر أنواع العنف الأسري انتشارا، إذ أنه غالبا ما يرافق أو يتبع الأنماط الأخرى من العنف الأسري، وكثيرا ما تمتد آثاره في خطورتها لتتجاوز آثار العنف الجسدي والعنف الجنسي.

فالولد الذي يتعرض لعنف جسدي من قبل والده أو للإصابة بكدمات في وجهه قد يُشفى جسديا خلال أيام، إلا أن الأضرار النفسية التي يمكن أن يصاب بها قد تتحول إلى أمراض أو عقد نفسية يحتاج معها الولد إلى أشهر أو حتى سنوات من العلاج النفسي ليُشفى منها.

وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة التي تتعرض لتحرش أو اعتداء جنسي من قبل أحد أفراد أسرتها، فإنه يترك آثارا مادية ضارة إلا أن الآثار النفسية في هذه الحالة تكون أشد ضررا وتمتد لفترات طويلة جداً.

صور ونماذج

يُعرَّف العنف النفسي الأسري بأنه "كل فعل أو قول أو سلوك يلحق ضررا نفسيا بالآخرين من أفراد الأسرة وفق ما تقرره المعايير الاجتماعية والخبراء وعلماء النفس".

وتتعدد الأفعال والسلوكيات المسببة للعنف النفسي لدرجة يصعب تحديدها بشكل كامل ودقيق إلا أنه من الممكن بيان أهم هذه الأفعال ومنها إشعار أحد أفراد الأسرة قولا أو فعلا أنه مرفوض من قبل أسرته أو أحد أفرادها المؤثرين، وكذلك إشعار أحد أفراد الأسرة بالاحتقار قولا أو فعلا وتجاهله وعدم الاهتمام به وتهميشه وتسفيه رأيه وعدم الرغبة في إشراكه بأي من شؤون الأسرة.

ويدخل ضمن العنف النفسي أيضا الترويع والإرهاب قولا أو فعلا كتهديد الزوجة بالطلاق وتخويف الأطفال ومحاولة جعل أحد أفراد الأسرة في قلق مستمر، أو عزل أحد أفراد الأسرة من خلال منعه من ممارسة حياته الاجتماعية والمهنية كعدم السماح للزوجة بالخروج من المنزل أو استضافة أهلها أو أقاربها دون سبب منطقي.

كما أن الإهمال وعدم الاهتمام بالتربية والتنشئة الاجتماعية السليمة للأبناء تُعتبر من بين صور العنف النفسي، إضافة إلى استغلال أحد أفراد الأسرة وممارسة الضغوط عليه من أجل القيام بعمل الآخرين أو تنفيذ رغباتهم.

ويضاف إلى ما سبق الإهمال العاطفي لأحد أفراد الأسرة وعدم مبادلته الحب والعطف كمعاملة الزوجة بجفاء وتجاهلها، أو القسوة على الأبناء وعدم مبادلتهم الحديث عن مشاكلهم ومساعدتهم في حلها.

تدمير حياة الطفل

وللعنف النفسي على الأطفال آثار نفسية كبيرة تستمر معهم حتى البلوغ، وربما طوال حياتهم، ويقول المستشار الأسري والتربوي مدرب البرامج الأسرية فهد حامد الحازمي، إن العنف النفسي والمعنوي كالتحرش الجنسي والسبّ والشتم وعدم تقدير الذات والتفرقة بين الإخوة، والتهديد من الآباء يعدّ شكلا من أشكال العنف على الأطفال، مبينا أن ذلك يعود بآثار سيئة على الأطفال في حياتهم الاجتماعية والتنموية والنفسية، وبالتالي يؤثر على تطورهم سلوكيا وتعليميا.

ويضيف الحازمي، في تصريح نشرته "وكالة الأنباء السعودية"، أن العنف بأنواعه المختلفة على الطفل ينتج شخصية قلقة يصعب التعامل معها، وشخصية ضعيفة تكون معرضة للاستغلال، ومن آثار العنف أيضا إدمان المخدرات، والاكتئاب، والفشل الدراسي، والتبول اللاإرادي، وغيرها من الأعراض التي تطال المعنَّف.

ونصت القرارات الدولية على تجريم كافة أنواع العنف والذي يمكن أن يتسبب في إحداث إيذاء أو ألم جسدي أو جنسي أو نفسي، ويشمل التهديد بالاعتداء أو الضغط أو الحرمان التعسفي من الحريات، سواء حدث في إطار الحياة العامة أو الخاصة، كما جاء في نص الإعلان العالمي لمناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة.

كما نصت اتفاقية حقوق الطفل، على ضرورة الإسراع بحظر جميع أشكال العقوبة البدنية وغيرها من ضروب العقوبة القاسية أو المهينة.

دعم ومواجهة

وللحصول على الدعم يستطيع ضحية العنف النفسي كباقي أنواع العنف والإيذاء الأسري اللجوء إلى مركز بلاغات العنف الأسري التابع لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والذي يستقبل بلاغات العنف على الرقم المجاني (1919)، على مدار (24) ساعة.

وفي الجانب القانوني تواجه قضايا العنف النفسي عدة إشكاليات منها عدم القدرة على الإثبات في كثير من الأحيان، إذ لا يهتم معظم الضحايا بالتوثيق والاحتفاظ بالبيانات، إضافة إلى عدم درايتهم بطريقة إثباتها، وعدم وضوح آثار العنف مقارنة بالإيذاء الجسدي أو الجنسي.

ولإثبات العنف النفسي أمام القضاء يمكن للضحية اللجوء إلى تقرير الطبيب النفسي، حيث يُفصل الأثر الواقع على الضحية، ويُعد دليلا استرشاديا يستأنس به القاضي ويُقوِّي توجهه في إصدار الحكم، ويضاف إلى ذلك شهادة الشهود ممن حضروا وقائع العنف والإيذاء والضغوط النفسية المختلفة.

السلامة النفسية

تبذل المملكة، ممثلة بوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، جهوداً كبيرة في سبيل تعزيز الجانب المعرفي بأشكال العنف وطرق الوقاية منه، حيث تؤمن القيادة الرشيدة بأن السلامة النفسية لكل فرد تشكل حجر الأساس لبناء مجتمع تنموي راق ومتحضر.