رسالة ساخنة جاءت من باريس إلى لبنان. الرسالة كانت بمثابة تهديدٍ علني. انتهى عهد الرسائل المبطنة والخجل والمجاملات. اللعب أصبح الآن على المكشوف. إن لم ينته ساسة لبنان من نزاعاتهم التي عطلت البلاد والعباد، فسيتم فرض عقوباتٍ لا تستثني ولا ترحم أحدا. لا تميز بين سياسي ذي حواضن شعبية كبيرة. أو زعيمٍ وريث.

حطت طائرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مطار رفيق الحريري في الثامنة من مساء غرّة سبتمبر الجاري. الزيارة هي الثانية في غضون شهر بعد الانفجار الذي دمر العاصمة بيروت. استقبله الرئيس اللبناني الذي تحول أشبه بمندوب مراسم رئاسية. التقطت الصور التذكارية. وانصرف الجميع إلى وجهاتٍ غير معلومة.

هو الوحيد ماكرون الذي كان العالم بأسره يعلم وجهته. ذهب إلى سيدةٍ لا تُحبذ الأضواء والإعلام بقدر ما هي شغوفة بالفن والموسيقى. وحب بلادها ذات الإرادة المسلوبة. ينتهي الأمر بعشاء أعدته السيدة فيروز بيديها في منزلها بمنطقة الرابية – إنطلياس – جبل لبنان. أبدى الرئيس الذي منحها أحد أعلى أوسمة بلاده إعجابه بالوجبة التي طهتها السيدة. قلدها الوشاح بعد أن قضى ساعةً وربع الساعة في منزلها. وغادر. إلى أين؟ إلى حيث الظلام، والطرق المُعتمة في بيروت عاصمة الجمال التي تنطفئ إنارتها يومياً في أوقاتٍ محددة، نظير فساد الكهرباء والعاملين عليها. وإلى أرصفةٍ تمتلئ بالمزبلة نظير إضرابات يقدم عليها العاملون في جمع النفايات جراء سلب حقوقهم المعنوية والمادية وممارسة التمييز بحقهم.

قال حين هم بالمغادرة من ذلك المنزل الأشبه بالأثري للصحافيين. «إنها سيدة ساحرة. بل هي جزءُ من الحلم والسر الذي تحيط نفسها به. هي قطعة إكسسوار في مثل هذه الأزمة. هي تحمل بشكل واقعي جزءاً من لبنان الحلم - يعني لبنان الكبير -».

يمكن أن يكون الرئيس الفرنسي أراد أن يدخل لبنان للمرة الثانية من بوابة الثقافة والفنون. وفي ذلك إشارة يُعنى بها السياسيون والحكومة اللبنانية وعلى رأسها الرئيس بالدرجة الأولى. مفاد تلك الرسالة «أنكم فاسدون. سئمكم شعبكم والمانحون. القريبون منهم والبعيدون. أنتم على مقربة من الحساب بالقانون».

لم يتوان ماكرون عن التهديد بمحاسبة من يثبت تعطيله للحياة السياسية ومن يثبت فساده. بالطبع استبق في مناورة إعلامية وسياسية الرئيس اللبناني ميشال عون زيارة الرئيس الفرنسي وطالب بما سماه «دولةً مدنية». ربما نسي الجنرال أن تحويل لبنان إلى دولةٍ مدنية يقتضي أولاً نزع الغطاء السياسي والشرعي الذي يوفره هو نفسه لحزب الله. وإلا فالجميع سيدور في حلقةٍ مفرغة، ويبقى النفوذ الأقوى لمن يملك السلاح، ويملك في أي لحظة القدرة على تعطيل الحكومة من خلال سحب وزرائه منها. تلك ألاعيب مكشوفة الهدف منها حفظ ماء الوجه بعد زيارات الرئيس الفرنسي المتكررة للبنان وسط حكومة فاشلة برئيسها ونظامها.

أبسط العقلاء يمكنه أن يُحدد أبرز الصعوبات والعراقيل التي تعوق قيام دولة تحترم المواطن اللبناني بالحد الأدنى. فسكوت الدولة والغطاء الشرعي الممنوح للمنقلبين على شرعيتها في الضاحية الجنوبية وحارة حريك، هو السبب الرئيس لضعف الدولة ولهشاشتها. الإنسان اللبناني ينظر لدولته بقصر نظر باعتبارها تكيل بمكيالين. تعجز عن حزب الله وتدعي محاربة الفساد والفاسدين. تفتح الباب للمهاجرين إلى غير رجعة، ولا تتمكن من منع استخدام حزب الله للشباب اللبناني كأوراق في المحرقة السورية، وقبلها العراقية، ومن يعلم ما القادم. تتشدق بالمساواة وتحقيق العدالة، ويقتل المواطن في الأزقة والشوارع بناءً على الطائفة والمذهب والدين، على أيدي زعران مسلحون. في لبنان لا الدولة دولة. ولا الزعماء زعماء. ولا المواطن مواطن. هم عبارة عن أنصاف. نصف دولة بأنصاف من يدعون أنهم زعماء يتحكمون في مصير نصف مواطن. من هذا المنطلق ربما أراد إيمانويل ماكرون وريث الانتداب الفرنسي، أن يُعيد دولة لبنان الكبير للذكريات التي أعلنها الجنرال الفرنسي هنري غورو عام 1920، الذي قال ذات يوم لبطريرك الموارنة إلياس الحويك حين طالبه بإقامة لبنان الكبير «كنتم كباراً في لبنان الصغير، وستصبحون صغاراً في لبنان الكبير». لذا كانت الزيارة قد أفرزت قليلاً من الكبار، وكثيراً من الصغار.