يعيش أطفالنا اليوم جل أوقاتهم في صحبة الأجهزة الإلكترونية في عالم افتراضي يصنعون من خلاله علاقاتهم الاجتماعية وأسلوبهم في الترفيه والتسلية. وبغض النظر عن مشاكل الرقابة الأسرية التي تعجز عن تقييد حرية الطفل في الخوض في هذا العالم الافتراضي المترامي الأطراف، فإن عالم الإنترنت سيكون عاملا مهما في عزلته الاجتماعية وفشله في إقامة علاقات إنسانية طبيعية مع الآخرين.

واليوم مع أزمة كورونا، وخوفا على سلامة الأطفال من العدوى، فإن ساعات دخول الأطفال للعالم الافتراضي سوف تزداد لأنهم اليوم مجبرون على التعلم عن بعد، فالأطفال اليوم يقضون معدلا كبيرا جدا من أوقاتهم داخل هذا العالم الافتراضي في موازاة للعالم الواقعي، بمعنى أن الطفل وفي مراحل التعليم الأولية، التي يفترض أنها الأساس في تكوين شخصية الطفل وتنشئته اجتماعيا، سوف يعيش ويكسب الثقافة والمعرفة عبر تفاعله المتواصل مع الحاسوب، بحيث يتحول إلى إنسان رقمي يعيش على الشبكة المعلوماتية ويتواصل مع غيره في أنحاء العالم كافة عبر الأجهزة، وهذا سيحدث هوة وخللا في تكوين شخصية الطفل دون شك.

التعليم في المراحل الأولية ليس مجرد كمية من المعلومات يتم ضخها في عقل الطفل بأي طريقة كانت، بل هو مشاركة وتفاعل وخليط من الأحاسيس والمشاعر تحدث في عالم الواقع والحقيقة، ففي العالم الواقعي يتعلم الطفل القيم والعادات وأنماط السلوك ويتشرب العرف السائد في المحيط الاجتماعي، فالعالم الواقعي هو القناة الوحيدة التي يجري نقل الثقافة من خلالها وانتقالها من جيل إلى جيل، ومن خلاله فقط يصبح الطفل كائنا اجتماعيا يتعلم العادات ويستجيب للمثيرات الرمزية ويتكيف مع بيئته الاجتماعية، وهذا لا يمكن أن يحدث عبر التعليم عن بعد.

التعليم عن بعد أسس ليحل محل التعليم في العالم الواقعي، ولكنه بالنسبة للأطفال مازال عاجزا عن تقديم نفس الجودة، بل سيكون له انعكاسات سلبية على شخصية الطفل وتحصيله العلمي وتأسيسه معرفيا بالشكل المطلوب بسبب التضارب الناشئ بين حياة الطفل المزدوجة بين عالمين متوازيين (الواقعي والخيالي). فالطفل يتعلم عن طريق اللعب والمشاركة والتفاعل الاجتماعي والتعاون مع الأصدقاء عبر عالم محسوس ومشاهد، وكل هذه الأدوات يفتقر لها العالم الافتراضي ويعجز عن توفيرها، بمعنى أن الطفل سوف يتعلم من خلال عالم غير طبيعي ويقضي أوقاتا طويلة في هذا العالم.

التعليم عن بعد سوف يزيد من مدة مكوث الأطفال أمام الأجهزة مما ينتج عنه العزلة والانطواء وفقدان القدرة على التعامل مع الآخرين التي يكتسبها من خلال تفاعله الطبيعي مع العالم الواقعي، ونحن نرى نتائج المكوث الطويل للأطفال على الأجهزة، ولعل أهم مظاهرها حالة الاغتراب والعزلة التي يعيشها بعض الأطفال والتي جعلتهم يرتمون بين فكي العالم الافتراضي. فالأطفال اليوم يفضلون العالم الافتراضي لما يمنحه من حرية لا حدود لها، بل إنهم أصبحوا يعتقدون أن هذا العالم الافتراضي ليس إلا امتدادا لعالم الحقيقة والواقع.

في اعتقادي أن التعليم عن بعد بالنسبة للأطفال يصلح لأن يكون تعليما تكميليا يضاف للتعليم في العالم الواقعي، لا أن يكون تعليما أساسيا وحيدا، فمرحلة الطفولة محطة مهمة من محطات العمر، فيها توضع اللبنة الأساسية في التكوين الذاتي والبناء الشخصي للطفل لتحقيق كيانه الاجتماعي، ولا أظن أن التعليم عن بعد سيحقق هذه الأهداف.