إن كان ثمة اختلاف في تحقيب الصحوة السعودية، حول ما إذا كانت قد بدأت من ستينيات القرن الماضي، حين وفدت جماعة من الإخوان المسلمين إلى السعودية، وبدأوا في ترتيب خلطة فكرية عقدية، تُوائِم ما بين مظاهر وقيم التدين التقليدي النجدي، ذي الصبغة الحنبلية، وطموحات ما يعرف بـ«الإسلام السياسي»، الذي كان بطبيعة تكونه، وما يتطلع إليه، غريبا على بيئة حنبلية متمسكة ببنية تَدَيُّن تبتعد عن السياسة وشؤونها، إذا كان الأمر كذلك، فإني أظن أن لا أحد يخالف في أن صعود نجمها، أعني الصحوة السعودية، قد بدأ فعليا مع بداية الثمانينيات الميلادية، حين بدأت أفكار الرواد الأوائل تعطي ثمارها. فقد اتسعت دائرة الأتباع، وتنوع المريدون من كل الأطياف والأجيال، وبدأت المقولات والأفكار الصحوية تسيطر على تعبيرات الخطاب الاجتماعي العام، وليس على الخطاب الديني فحسب.

لقد كنتُ في ذلك الحين، أعني بداية حقبة الثمانينات الميلادية، طالبا في مرحلة البكالوريوس، في جامعة الملك سعود بالرياض. ومن ضمن المشاهد التي لا أنساها أن الطلبة الوافدين من بعض المناطق كانوا يسافرون، في الغالب، إلى مناطقهم نهاية كل أسبوع، لحضور المحاضرات، والنشاطات الصحوية التي كانت تقام هناك، بغض النظر عن ظروف جدولهم الدراسي، مما يدل على الزخم الاجتماعي الكبير الذي كان يمثله خطاب الصحوة في تلك الفترة.

لكن ثمة مغالطة ارتكبها بعض من أرّخوا، أو نقدوا خطاب الصحوة، كالفرنسي ستيفان لاكروا، في كتابه (زمن الصحوة)، عندما اعتقد أن توسع وهيمنة خطاب الصحوة، قد أدى إلى تضخم دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى منع ظهور المطربات والمذيعات في التلفزيون، وحظر دور السينما، إلخ.. وهذا في ظني خطأ ما كان يُظن، خاصة، بباحث متمكن مثل (لاكروا) أن يقع فيه. ذلك أن منع ظهور المطربات، والمذيعات في التلفزيون، لم يكن من أثر الصحوة، بل كان قد بدأ بُعيد انتهاء حركة جهيمان العتيبي، الذي احتل، ومعه مجموعة من أفراد ما يعرف حينها بـ(السلفية المحتسبة)، الحرم المكي الشريف، إلا إذا حُسِبَ جهيمان وجماعته على الصحوة، وهذا لم يقل به أحد من المهتمين بتحقيب وتعقب وتحليل خطاب الصحوة. أما هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كانت موجودة بكل زخمها قبل صحوة الثمانينات، وبالنسبة لدور السينما، فلم يكن هناك دور بالمعنى المعروف، بقدر ما كانت بعض الأندية الرياضية تعرض أحيانا أفلاما سينمائية في غرف

لم تخصص أساسا لهذا الغرض.

ثمة وسائل ساعدت الخطاب الصحوي حينذاك بأن يكون صاحب الصوت الأقوى، وأن يجعل لأفراده، أو للمتحدثين باسمه، الغلبة والتمكن والتجلة والتقدير. منها أن هذا الخطاب كان يُلقى على مسامع مستهلكيه وفق آلية رأسية قطعية، إذ لم يكن خطاب الصحوة يسمح، ولم يكن منطقه يسمح أيضا، بإفراد مساحة للنقاش الحر، أو لتبادل الآراء، أو للأخذ والعطاء بين الأقطاب والمريدين، بل كان الخطاب يُلقى رأسيا من قبل الأقطاب، ليتلقاه المريدون دون نقاش، وهذه من أخطاء الصحوة المميتة، إذ بعدما أخذ الخطاب الصحوي بالأفول، في النصف الثاني من التسعينات، اكتشف كثير من مريديه أن ثمة تهافتا منطقيا وعلميا يعتري غالب المقولات الصحوية التي كانت تلتحف بأردية هيبة الأقطاب!

جدير بالذكر أن الخطاب السلفي التقليدي الذي كان سائدا قبل خطاب الصحوة، لم يكن ذا آلية رأسية في التلقي، نسبيا على الأقل، فلقد كان شيوخه الذين كانوا يقيمون الدروس في المساجد، ويعقدون الحِلق التي يتحلق حولها جمع من الطلبة، يسمحون بهامش من حرية نقاش الطلبة لهم، وبالأخذ والعطاء معهم، بل وحتى بتخطئتهم أحيانا، فجاء خطاب الصحوة، الذي أخفى حينها بريق هامش الحرية النسبي الذي كان يتيحه الخطاب السلفي، ليطم الوادي على القرى، كما هي عبارة ابن رشد الحفيد، وليجعل من آلية التلقي رأسية ذات اتجاه واحد من الشيخ أو القطب، إلى التلميذ أو المريد، دون السماح بأي تعقيب أو نقاش، ناهيك عن التخطئة، أو محاولة تصحيح بعض أخطاء الشيوخ، حتى حين التلفظ ببعض المصطلحات والمفاهيم الحديثة، التي كان بعضهم يلقيها أثناء محاضراته أو دروسه.

أذكر بهذه المناسبة، أني حضرت إحدى محاضرات أحد مشايخ الصحوة، في الجامع الكبير بمدينة بريدة، وكان ذلك الشيخ يتحدث عن مصطلح اقتصادي يُعرف بقانون المنفعة الحدية (Law of diminishing utility)، ويُسمى أحيانا بـ«المنفعة المتناقصة»، والذي ينص على أنه كلما زادت الكمية من سلعة معينة، فإن المنفعة منها تتناقص تناقصاً عكسياً مع زيادتها. المهم أن الشيخ نطقها «المنفعة المتناقضة»، فأرسلت ورقة صغيرة إلى تلميذه الواقف على رأسه، ليصحح للشيخ عبارته، فمنعت هيبة الشيخ التلميذَ من إيصال الورقة إلى الشيخ، ولو أوصلها إليه، فلا أظن أن الشيخ حينها، تحت وقع كبرياء الصحوة، سيصحح خطأه علنا أمام الحضور!.