أول عهدي باسم الدكتور أحمد محمد الضبيب، كان في الجامعة، وإن أردت التعيين، ففي دروس مادة فقه اللغة. كان اسمه يبرز لي، كل فينة وأخرى، في مراجع طائفة من الكتب التي اختصت باللهجات العربية الحديثة، وعرفت، في ذلك الزمن القديم، أنه ترجم كتابا عنوانه «دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية لـ ت. م. جونستون – أستاذ اللغة العربية في جامعة لندن – وكان يستجلب نظريا دوران الكتاب المترجم على لهجات شرقي الجزيرة العربية، وكنت أظنه كتابا مختصا بدرس لهجات تلك الناحية، في تاريخها القديم، حتى إذا ظفرت به، بعد ثلاثة عقود من ذلك العهد، أدركت أنه إنما يدرس اللهجات الحديثة! وكنت كلما أنسيت الضبيب وترجمته، يعاودني الكتاب، والمؤلف، والمترجم السعودي، فيداخلني شيء من الزهو أن أستاذا سعوديا تكلف ترجمة كتاب معدود في المصادر اللغوية المهمة، وأن باحثين عربا اعتادوا الظهور على تلك الترجمة!

لم أعرف الأستاذ الضبيب إلا بآخرة، لكنني كنت قد اعتدت، من قبل، دوران اسمه في الأخبار، يوم كان مديرا لجامعة الملك سعود، وكنت أحس، كذلك، بشيء من الزهو أن أستاذا مختصا في اللغة العربية وآدابها، تبوأ ذلك المنصب الرفيع، حتى إذا توثقت صلتي بكتب الدكتور محمد الشامخ، والدكتور منصور الحازمي، بت قريبا من جيل كان الدكتور الضبيب واحدا من أبنائه، ودلني كلام الحازمي، في غير كتاب من كتبه، على ذلك الجيل، فلما اتصلت بـ«معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية» للعلامة العراقي الجليل علي جواد الطاهر، تكررت إشارته إلى جيل من السعوديين، نستطيع أن نقول: إن على أيديهم تأسيس الدرس الجامعي في بلادنا، وأن الشامخ، والحازمي، والضبيب، وعبدالرحمن الطيب الأنصاري، وعزت خطاب، هم الرعيل الأول من أساتذة الجامعات، في الآداب والعلوم الإنسانية.

صنف الحازمي أبناء ذلك الجيل، على وفق اهتمامهم: عني الشامخ بتاريخ الصحافة، ودراسة النثر الأدبي في المملكة، واختص الحازمي بـ«الرواية التاريخية»، قبل أن يصبح هو أول ناقد من أساتذة الجامعة، أما الضبيب فكان، من يومه، مشغوفا باللهجات، والتراث الشعبي، لكنهم – جميعهم – على غير اتفاق - كأنما أدركوا أن عليهم «استئناف» القولفي ثقافة الجزيرة العربية، وكانت بلادهم هي قلب تلك الجزيرة، ولم تصرفهم خطوب الحياة وحوادثها، ولا ما تقلبوا فيه من وظائف ومناصب عن رسالتهم التي أخذوا أنفسهم بها، فقرأنا لهم بحوثا متفرقة في الصحافة اليومية، والمجلات المتخصصة، في أدب هذه البلاد وثقافتها، واجتمع فيهم، وخاصة الثلاثة المذكورين، الأستاذ الجامعي، والناقد، واللغوي، والوراق، والمفهرس.

عكف الحازمي على تكشيف الصحف الأولى، فكان كتابه «معجم مصادر الفكر والأدب في المملكة العربية السعودية: صحيفة أم القرى» (1394 = 1974)، وأخذ أحمد الضبيب على نفسه، منذ عام 1394 = 1974«حصر» التراث الثقافي والفكري للبلاد التي تألفت منها السعودية، يريد، من وراء، ذلك تخطي ثنائية «المركز والهامش»، وليس له من هم إلا تصيد كل كتاب صنفه، أو صححه، عالمٌ، أو أديبٌ من أبناء هذه البلاد الواسعة التي يعتزي إليها، في عصرها الحاضر، وشرع، منذ ذلك العهد، في تأليف كتاب عن «حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية»، وكان الكتاب، في بداءته، بحثا لطيفا، استمد مواده مما قرأ وعاين، ولبث ينمو، رويدا رويدا، فإذا ما كان فصلا أذاعه في مجلة الدارة، سنة 1395= 1975، يبرز في مكتبة الملك فهد الوطنية، سنة 1408 = 1987، كتيبا نافعا، دلت مواده على أن صاحبه رعاه في المهد، فلما أنشأ يحبو أظهره للقراء، وعليه مخايل النجابة، ثم مضى الضبيب في شؤون أخر، بعيدا عن كتابه ذلك اللطيف، حتى خيل إلينا أنه أنسيه، لكن الكتيب كان ملاذ الباحث والأستاذ والطالب، وكنت أرقب، من بعيد، خطوه، ونموه، حتى شب ونضج فصار، في عهده الجديد، «بواكير الطباعة والمطبوعات في بلاد المملكة العربية السعودية»، سنة 1428 = 2007، فلما أظلنا عام 1441 = 2020 استدار ذلك الكتاب واستتم، وتألف منه «حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية» في 648 صفحة، وصح في هذا الكتاب الذي بدأه صاحبه شابا، ورعاه كهلا، وأتمه شيخا، أن يكون كتاب العمر!

وسلف أن الضبيب من جيل ألزم أبناؤه أنفسهم بـ«استئناف القول في الجزيرة العربية»، وكأنما هذه الجزيرة التي تحتل السعودية موضع القلب منها = تعاهد أبناؤها على بعث مآثرها ومفاخرها، لا فرق بين جيل جديد أفراده الحازمي والشامخ والضبيب والأنصاري، وجيل قديم كان أبناؤه الرواد يشرعون في عصر تدوين جديد يناظر ما تم في القرون الأولى، فكان منهم اللغوي، وعالم الآثار، والمؤرخ، والبلداني، نلقاهم مع البدو في الصحراء، ونلمم بهم في السهل، والجبل، يتتبعون الأمكنة، ويجمعون الأشباه والنظائر، وأسلموا لمن جاء في أثرهم تراث مدرسة سعودية من أعلامها عبدالقدوس الأنصاري، ومحمد بن بليهد، وحمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، ومحمد بن ناصر العبودي، ومحمد بن أحمد العقيلي، وعاتق بن غيث البلادي، وعلي صالح السلوك.

كان كتاب «حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية» وشقيقه «معجم مطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية»، من الكتب التي يصح وصفها بكتب العمر، وكأنما الضبيب يدفع عن ثقافة هذه البلاد عقوقا أحسه من قبل عبدالقدوس الأنصاري وحمد الجاسر، وصور الكتاب والمعجم، متى ألممنا بهما، مظهرا من مظاهر البعث العلمي والثقافي، لبلاد ما أراد أبناؤها أن يستنيموا لماضيها القديم، ودلنا التصنيف الوراقي على أن حركة العلم في البلاد التي تألفت منها السعودية لم تقف، لا سيما ما اتصل بالحرمين الشريفين، فلما عرف العرب الكتاب المطبوع كان لهم نصيب فيه.

أذكرني معجم الضبيب وكتابه جهاد العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب رحمه الله، في إحياء تراث بلاده، ولا سيما معلمته الباذخة «كتاب العمر، في المصنفات والمؤلفين التونسيين». استفرغ العلامة الجليل عمره في بعث تراث تونس – أو إفريقية بلسان القدماء – ومضى يطالع المخطوط والمطبوع، وينقب في مصنفات الأوائل، ويبحث في خزائن الكتب، عن آثار أسلافه التونسيين، وكان يحدث نظراءه من العلماء، كلما اتصلوا بعمله المحيط هذا، أن خير اسم له إنما هو «كتاب العمر»، وكان، بحق، معلمة تظهرنا على سهم بلاد إفريقية التونسية في تراث العرب، وهو تراثٌ يحمل الشيخ التونسي على أن يرى في «المفاخر بما للتونسيين من مآثر»، و«الموسوعة التونسية في تاريخ العلوم العربية بالقطر الإفريقي»، عنوانين مفترضين، لولا أنه عاد فرأى «كتاب العمر» يصور مكابدته في بعث صورة تونس المثقفة، فإذا أبنا إلى عالمنا السعودي الجليل الضبيب أدركنا شرف الرسالة التي ندب نفسه إليها، وعرفنا لم كان كتابه هذا «كتاب العمر»!