رياح الغزو الثقافي تلف في سماء باكستان. بالدراما التي باتت أحد أهم صور القوة الناعمة، فتح الباكستانيون منازلهم لاستقبال الوداعة التركية. تلك الوداعة الدرامية وقف وراءها عصملي أنقرة رجب طيب إردوغان بشخصه، لتعميمها على منطقة الشرق الأوسط، انطلاقاً من منطقة الخليج، وانتهاءً بباكستان.

في إسلام أباد استطاع العصملي شخصياً كسب موافقة رئيس الوزراء الباكستاني ودعمه، لترجمة مسلسل "قيامة أرطغل" التركي إلى لغة الأوردو، الذي يحكي دوافع تأسيس الدولة العثمانية البائدة. الهدف التركي ليس ثقافياً كما يبدو للبعض، إنما سياسي بامتياز.

وفي موازاة ذلك، هرول السفير القطري المُعين مؤخراً إلى المعسكر التركي الذي يستهدف باكستان.

قدم السفير وهو أحد أبناء الأسرة الحاكمة القطرية، منحةً لباكستان من خلال مضاعفة أعداد الباكستانيين العاملين على أراضي بلاده ليصل العدد إلى 90 ألف عامل، من باب رد الدين والجميل من قبل بلاده لباكستان التي عملت على تدريب أعداد من الطيارين القطريين كما يقول. في ظاهر القول حسن، وفي باطنه مُستصغرٌ من الشرر. بالمناسبة فقد تم انتقاء السفير القطري بعناية لأن يكون في إسلام أباد، جراء فهمه الطبيعة الباكستانية وعلاقاته المسبقة بكبار المسؤولين العسكريين والمدنيين، باعتباره تلقى تدريبات عسكرية هناك، إضافة إلى مرافقته والده على الدوام في رحلات القنص التي يقوم بها في الأراضي الباكستانية.

وعلى إيقاع الخطوات التركية القطرية، جاء وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف مواكباً للحليفين اللذين يعتبران لبلاده "إخوةً أعداء". بعاطفةٍ لا تتسق مع السياسة الإيرانية، قدم ظريف تعازيه لنظيرة وزير الخارجية الباكستاني تجاه الخسائر التي شهدتها باكستان بسبب الأمطار الموسمية التي أودت بحياة أكثر من 90 شخصاً ودمرت 1000 منزل.

ولا يتوقف الأمر عند عاطفة ظريف، بل يصل إلى أبلغ من ذلك. إذ دعا خبراء إيرانيون وباكستانيون خلال ندوةٍ شهدتها إسلام أباد إلى ضرورة ربط موانئ "جابهار الإيراني، وجوادار الباكستاني" لتعزيز علاقات البلدين حسب ما جاء في الندوة. يحق لأي كان أن يرى تلك الصور الثلاث السابقة شكلاً من أشكال السياسة. وفي مقابل ذلك يحق للمراقب أن يرى أن ما بين السطور ما بينها، وأن ما وراء الأكمة ما وراءها. فتلك المشاهد وفق ما أرى، تُخفي سعياً لما يمكن أن يتم تسميته محاولات لـ"تدمير" للعلاقات السعودية الباكستانية، أو على الأقل "اختراق" هذا الملف عبر بوابة إسلام أباد.

يتضح لنا استغلال المحور الثلاثي لـ"زلةً" أو"حماسة" وزير الخارجية الباكستاني، الذي قال ذات يوم إنه سيطلب من رئيس الوزراء الباكستاني إحراز تقدم في قضية كشمير دون المملكة العربية السعودية، وربط هذا الطلب بانتقادٍ لدول منظمة التعاون الإسلامي حول ذات القضية. انكشف الأمر من الوهلة الأولى وسقطت أقنعة صانع القرار في تلك الدول. فقد أسرع الأول لتكريس قوة بلاده الناعمة بـ"الدراما" ومخاطبة المجتمع الباكستاني،

وجاء الآخر "الصغير" متعهداً بفتح الأبواب لمزيد من الأيدي العاملة الباكستانية، وحرص الأخير على ربط خطوطه البحرية بباكستان. من خلال هذه القضية تبدو هناك ضرورة مُلحّة لوقف محاولات ملء الفراغ السعودي في باكستان - إن وجد - واستغلال أي طارئ قد يطرأ على علاقات البلدين. بات من المؤكد وجود من ينتظر حدوث أي شرخ في تلك العلاقة، بدليل ما قدمته "تركيا وقطر وإيران" من تعهدات على أطباقٍ من ذهب للجانب الباكستاني، الذي عاد هو بذاته وصحح مسار العلاقات السعودية الباكستانية، في خطوةٍ أشبه بـ"الصفعة المدوية" للمحور الثلاثي.

ما يُمكنني قوله، إن الارتباط السعودي الباكستاني الوثيق، وتجاوز أي اختلالات في مسار تلك العلاقة من شأنه وقف الاندفاع "التركي القطري الإيراني"، الذي اتضح لمجرد حدوث "لبسٍ في وجهات النظر" بين الرياض وإسلام أباد.

أزعم أن إيقاف تلك المحاولات التي يمكن وصفها بـ"المراهقة السياسية"، يستدعي تواجداً سعودياً أقوى وأكبر مما مضى في باكستان، لتجنب أي خلل في تلك العلاقة الاستراتيجية، أو خسارتها لا قدر الله.

مخاطبة المجتمعات سلاحٌ ذو حدين. تكمن خطورته فيما يخفي من أهداف. وما أقدمت عليه الدول الثلاث عبر مخاطبتها المجتمع الباكستاني ودغدغة عواطفه في السياسة "شطارة"، وفي الواقع "حقارة"، كونه ذو أهدافٍ غير حميدة بما لا يدع للشك مجالا.

لوهلة، استذكرت رياح الحرب الأفغانية التي عصفت في أرض أفغانستان الجريحة لسنوات طويلة. واستحضرت إقدام القوات السوفييتية على إطلاق سراح السجناء السياسيين فور أن وطأت الأراضي الأفغانية. استبشر حينها الأفغان وفرحوا بالقادم من الشرق. لكنهم انقضوا عليه بعد يقينهم بأن من قدموا لا نية لهم لمغادرة أراضي بلادهم، وأنهم غُزاة خالصون.

إردوغان وأتباعه أعادوا ذات السيناريو مع باكستان مع اختلاف الشكل والحبكة. أراد سماسرة الحرب الثلاثة الدخول لباكستان من خلال الأمة الباكستانية والمجتمع الباكستاني الكبير. لكنهم فشلوا ورُد كيدهم إلى نحورهم. لأنهم عبارة عن طُغاة. والطُغاة كالأرقام القياسية لا بد من أن تتحطم يوماً ما. وسيأتي يوم ويتحطمون. سنرى.