أدى تضخم وتزايد أعداد الأعمال والعاملين في السنوات الماضية تحديدا في السعودية، إلى تنوع وتعدد سلوكيات العمل السلبية. خاصة مع وجود الحافز التقني والنفسي، والرغبة في توثيق حياتنا اليومية، الأمر الذي جعل سلبيات المجتمع الوظيفي تتجاوز ما كانت عليه في الماضي والمتمثلة غالبا في البيروقراطية، حيث كانت هي العنوان العريض لأبرز مشاكل بيئة العمل. ثم انتقلت مؤخرا إلى محطات وسلوكيات أوسع، حتى بدأت تتشكل كظاهرة نظرا لتكرارها وتطابقها في الكثير من بيئات العمل.

فلم تعد البيروقراطية وبطء العمل والإجراءات المعقدة السلبية الأبرز في مجال العمل والمجتمع الوظيفي اليوم، بل تراكمت عليها سلبيات أكثر تعقيدا. البعض منها يحاول استنساخ تجربة أجنبية لا تتناسب مع بيئتنا، والأسوأ من ذلك، بعضهم يريد أن يعيش تفاصيل الحياة المهنية في مسلسل أو فيلم شاهده، بل حتى يسعى لمحاكاة ديكورات مكاتبهم.

إشكالية هذه الفئة أنها لا يهمها نقل الأفكار والخطط التطويرية وترجمتها على أرض الواقع، وإنما اهتمت بالقشور، وبطريقة تصميم المكتب والكتابة على اللوحة، وبعض التفاصيل الهامشية التي تتحول إلى شغلهم الشاغل وتصبح أولوية بالنسبة لهم، لدرجة أنك حينما تدخل إلى مكاتبهم تعتقد أنك في موقع تصوير لإعلان ترويجي لإحدى الشركات دون أن يكون لكل هذه الشكليات أي مردود على الإنتاجية.

ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في مظاهر التسطيح في بيئة العمل. فأصبح السباق الماراثوني بين الموظفين لمن يخرج من الدوام متأخرا، ليوثق عبر تلك الشبكات موعد خروجه فقط ليخبر الآخرين بأنه (فلتة) زمانه الذي لا تكفيه ساعات العمل المحددة، وأنه منهمك في دهاليز وظيفته إلى ساعات متأخرة من اليوم رغم أن المنطق في العرف العملي يقول، التأخر في ساعات الدوام هو دلالة واضحة وصريحة لسوء التخطيط وإدارة وقت.

وهذا ما يقودنا للفكر الكمي لا الكيفي، وهو الذي أصبح هاجسا كبيرا لدى الموظفين. فنجد أن التفاخر الآن حول من يحظى بساعات الدوام الأطول، ومن الأكثر اجتماعات والأطول مدة، جميعها معايير - للأسف- أصبحت ركائز أساسية في بيئات العمل دون النظر لحجم المنجز المستخلص من تلك الساعات الطويلة.

وبالحديث عن الاجتماعات وما يدور في أزقة الغرف المغلقة، فإن الحديث عن سلبياتها يطول وصفه. فالكم الهائل من الاجتماعات، والوقت المستغرق فيها، وتتابعها بالإضافة إلى كونها تعتبر عنصرا أساسيا في تعطيل أداء المهام الفعلية، جميعها سلبيات تفرزها الاجتماعات غير الضرورية وكأنها اجتماعات تعقد للاجتماع فقط.

كما أنه وفي الآونة الأخيرة ظهر ما يعرف بحديثي المنصب، الذين تجد من سلوكيات بعضهم ما يكشف أنهم حتى لحظة وجودهم على كرسي المنصب لم يصدقوا ما هم عليه. فتبدر منهم تصرفات هدفها الأساسي إثبات أحقيته بالمنصب حتى لو كانت بطرق مبتذلة، الأهم لديه أن يمارس سلوكا يجعل عقله الباطن يشعره بأنه في المنصب المناسب.

ومن الظواهر الواضحة أيضا، الفريق التابع للمسؤول أو الرئيس جميعهم يشعرونك بأنهم مديرون، وأنهم أصحاب القرار، بل يمارسون كل أنواع الاستعلاء والفوقية والتحدث باسم رئيسهم. بل لا أبالغ إن قلت إن الرؤساء والمسؤولين، أكثر تواضعا وأسهل في الوصول من مديري مكاتبهم والتابعين لهم.

تشكلت فئة جديدة من المديرين ممن يعتقدون أن مهمة المدير الفعلية هي إصدار الأوامر ومراقبة العمل وعقد الاجتماعات، ووجود عدد من موظفي السكرتارية التابعة له. دون مشاركة مرؤوسيه في المهام المناطة للإدارة، رغم أن العديد منهم تجد مكتبه يزخر بمقولات عن الفرق بين القائد والمدير، غير أنهم لا يطبقون أيا منها، وإنما هي موضوعة لتزيين المكتب، ولتضاف للوحات التشكيلية الموجودة. ومما يزيد البشاعة الوظيفية لدى بعضهم، حين يسرق جهد أفراد فريقه، حين يطلب منهم إنجاز مشروع، أو مهمة لينسبها له، بحجة أنه المدير وصاحب الصلاحية الأقوى.

الشكليات لن تصنع المنجزات.. والمناصب مسؤولية لا مكافأة، علينا التعامل معها بإخلاص وجدية، فمن منحنا الثقة، يستحق منا أن نكون أهلا لها، وأن نساهم في نماء الوطن.