شاع منذ عقود في الفضاء العربي مصطلح «التنوير»، بدءا مع أطروحات رواد النهضة العربية، الذين تأثر معظمهم بعصر الأنوار الأوروبي، مطالع تأسيس الدولة القومية، بعد نهايات السلطة العثمانية، والاحتلال الأوروبي. فيما تذهب أطروحات لنقد النخب الفكرية التي أطلقت مشاريع حركة التنوير العربي، معتبرة معظم تلك المشاريع ماهي إلا استنساخ للتجربة الغربية، التي تختلف في سياقاتها التاريخية والاجتماعية عن واقع البلدان العربية الخارجة من الإرث العثماني والأوروبي.

وذهبت أطروحات أخرى إلى أن العالم العربي شهد محاولات للانعتاق والخلاص من آثار الاحتلال، لكن معضلة غياب التراكم الفكري والسياسي والإبداع، وبقاء الهياكل الاجتماعية على ما هي عليه، أعاقت انطلاق لحظة التنوير ووضعها في الطريق السليم.

مواجهة الريح

الباحث والكاتب والمترجم السوري هاشم صالح حاول مقاربة التساؤل عن محددات ما سماه «الانسداد التاريخي.. لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟» وهو عنوان كتابه الذي سعى فيه لمراجعة مأزق خطابات التنوير العربية.

يقول صالح: كلّ فكر لا يفضح ولا يعرّي ليس فكراً، وتالياً لا بد من الحفر الأركيولوجي في أعماق الساحة العربية والإسلامية لأنّ الأرض العربية عطشى للحقيقة. واصلا إلى ما حدث لهذه الخطابات في أعقاب حادثة 11 سبتمبر 2001، وقبلها هزيمة الـ1967 وتهاوي الخطاب الشيوعي وسقوط الأيديولوجيات الديماغوجية، داعيا العرب إلى مواجهة ريح التاريخ بعدما وصلوا إلى قعر البئر حسب تعبيره.

التكلس والتحجر

يطرح صالح وهو يعالج أسباب إخفاق التنوير العربي وفق رأيه، استشهادا تاريخيا يتعلق بالواقع الغربي، حيث جاء التنوير الأوروبي رد فعل على الجرائم التي ارتكبت باسم المسيحية، ويضيف: إن الدافع الأول لظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر بقيادة مارتن لوثر، يكمن في تردي المسيحية في العصور الوسطى وتحولها إلى قوالب جامدة فاقدة للروح، ووصول الإيمان المسيحي إلى درجة مفزعة من التكلس والتحجر، وتحويله إلى وسيلة للضحك على العامة وجمع الأموال الطائلة وتحقيق المآرب الشخصية باسم المسيح والإنجيل، والتوسع في الحروب المذهبية نتيجة عدم تقبل الآخر. عندما ساءت الأمور بهذا الشكل، انفجرت ثورة لوثر، فكان انحطاط الواقع ومحاكم التفتيش وإرهاب العقول وراء الحفر في الأعماق، لذلك ومن ثم أخضعت أوروبا التراث المسيحي في العصور الوسطى إلى الدراسة العلمية والمساءلة.

الحداثة كمنتج

إذا كان عصر التنوير في أوروبا هو الذي فصل الغرب عن حضارات العالم كله، فمنذ القرن الثامن عشر أصبحت أوروبا في وادٍ وبقية العالم في وادٍ آخر، فإن هاشم صالح لا يتردد في الجهر بأنه بات ضرورياً لخروج العالم العربي مما سماه «الانسداد التاريخي»، أن ينبثق خطاب فكري جديد يتحلّى بدرجة عالية من الحس أو الوعي التاريخي بموازين القوى العالمية والهجس بالحقيقة إلى درجة الهوس.

ولتحقق هذا الخروج يرى صالح أنه ينبغي تحرير الروح العربية الإسلامية من قيودها التاريخية في معركة طويلة الأمد لتشخيص المرض ونبش الحقيقة المطموسة تحت ركام القرون. فالتحرير من الداخل أكثر رسوخًا وإقناعًا، والحفر في الأعماق سيعزل الرواسب الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية المتراكمة، من خلال مراجعة اليقينيات التي ترسخت منذ الطفولة. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا عندما دخلوا في صراع مع الأصوليين المسيحيين وتصورهم اللا عقلاني الغيبي، والحداثة كمنتج ما هي إلا الخُلاصة النهائية التي تمخض عنها هذا الصراع.

مفهوم الحقيقة

يوجه صالح نقدا قويا للقومية العربية، مؤكدا أنها فشلت في تحرير الإنسان العربي؛ لأنها فرضت نفسها بشكل قسري على الشعوب، ولأنها كانت مُفرغة من أي فلسفة إنسانية ومن أي احترام للأقوام الأخرى كالأكراد والأمازيغ والأرمن. فهي – أي القومية – بجانب الخطابات الأيديولوجية الأخرى التي سيطرت ولا تزال على العقل العربي سواء الماركسية أو الإسلاموية، كلها تنتمي لنفس المنظومة الفكرية برغم كل الخلافات الظاهرية بينها، لأنها تشترك في صفتين: ضمور الحس التاريخي من ناحية، واحتقارها الكلي لمفهوم الحقيقة من ناحية أخرى.

اليقينيات المطلقة

يقول الكاتب إنه على مدار 1500 سنة، كانت الكنيسة الكاثوليكية تفرض نفسها على الآخرين، كحقيقة مطلقة، كل من لا يؤمن بها كافر، عن طريق القوة ومحاكم التفتيش وحرق الكتب والناس. لكن التطور النوعي الذي حدث في أوروبا على مدار مائة عام كان بمثابة ثورة لاهوتية كبرى تصالح فيها الوعي الأوروبي مع نفسه ومع العالم، أدت تلك الثورة إلى اعتراف الكنيسة بالأديان والمذاهب الأخرى ومشروعيتها باعتبارها كلها طرقًا توصل إلى الله إذا ما كان المرء صادق النية وصالحا في أعماله. وهو ما لا يستطيع المتزمتون فهمه لأنهم منغلقون داخل يقينياتهم المطلقة التي تنتج الإرهاب، والتي عانت منها أوروبا طيلة ثلاثة قرون، فمحاكم التفتيش لم تنته في إسبانيا مثلًا سوى في أواسط القرن التاسع عشر.

تآمر على التراث

حين يغوص هاشم صالح في التراكمات التاريخية لا يتردد في القول بأن الروح العربية تقيدت وانغلقت على ذاتها منذ انهيار الحضارة العباسية والأندلسية، مؤكدًا أنه لا مفر من تحرير الروح الداخلية، قبل أي تحرير اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، معتبرًا أن أعلى درجات الغياب والاستلاب والأسر عندما يكون المقيد لا يشعر أبدا بأنه مقيد، بل على العكس من ذلك يعتبر نفسه حرا، ويستغرب من طرح مشكلة هو لا يراها موجودة، والسبب في تلك الحالة العجيبة أن غياب الحرية عن الساحة الثقافية العربية الإسلامية طال قرونًا عديدة متواصلة، لدرجة أصبح معها العربي المسلم ينكر أهمية وجودها، ويتهم الذين يريدون إعادتها بشتى أنواع التهم، وأنهم يتآمرون عليه وعلى تراثه.

هاشم صالح

ولد عام 1950

كاتب وباحث ومترجم سوري

عاش في فرنسا منذ الثمانينيات

يعيش الآن في المغرب

ترجم كثيرا من كتب محمد أركون إلى العربية

أنهى مرحلة دبلوم الدراسات العليا من جامعة دمشق

عمل معيدا في كلية الآداب في جامعة حلب

الدكتوراه من جامعة السوربون 1982 تحت إشراف محمد أركون

مؤلفات

مدخل إلى التنوير الأوروبي

بمعضلة الأصولية الإسلامية

الانسداد التاريخي

معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا

مخاضات الحداثة التنويرية، القطيعة الإبستمولوجية في الفكر والحياة