ينشد الجميع لا شك الصحة النفسية ويسعى لها لجودة حياة، ولكن الطريق لها ليس بالأمر الهين الذي قد يعتقده البعض، وإنما من خلال معرفة مصادر ومكامن الصحة النفسية. هناك الكثير من الناس «يعيش» يأكل ويشرب وينام ولكن يُخيم عليه كم من سحابات الهم والغم والحزن والمُعاناة، وهو يُعاني قساوة العيش ومرارته، ولكنه لا يعلم أين يذهب ومن أين يطلب الصحة النفسية، وفي حالات أخر يتجرع الألم النفسي أشد ضراوة وهو لا يعلم كنه مُعاناته، هنا تبرز ثقافة الوعي النفسي.

تتلخص مُقومات الصحة النفسية على المستوى الفردي فيما يلي:-

1. امتلاك مُعالج معرفي سليم، ينتقل العالم الخارجي المحسوس وكذا الداخلي إلى المُعالج المعرفي لكل منا، والذي يقوم بدوره بمُعالجة الأحداث الخارجية والداخلية، ومن بعدها يقوم بإصدار «استجابات ومُخرجات»، هذه الاستجابات والمُخرجات عبارة عن سلوكيات ظاهرة للعيان ومشاعر وعواطف واتجاهات، طبيعة هذه الاستجابات والمُخرجات الصادرة في «شكلها ومُحتواها» مُرتبطة مُباشرة بما في داخل ذلك المُعالج المعرفي، وليست في الأحداث ذاتها، فعندما يكون المُعالج المعرفي سليما، فحتما ستكون الاستجابات والمُخرجات الصادرة في ذات السياق، ستكون «توافقية» وتُفضي إلى ما هو أبعد من ذلك وهي السعادة، هنا جودة حياة لا شك ولا ريب!!!

2. تحقيق الذات «Self-Actualization»، عندما تُشبع حاجات الشخص الأساسية بشكل مُرض ويُتاح له الاحترام والحب والتقدير في بعده الإنساني «غير المشروط»، ويرى نفسه بعينه وليس بأعين الآخرين، ويستطيع العيش في ذات حقيقية «Actual Self» رسمها لنفسه وفقا لاحتياجه، ويُخطط للمزيد من التطور والنماء، ويُحدد أبعاد هويته وصورته عن نفسه في ظل تهميش صور الآخرين له، ويلغي من جهازه الشخصي خاصية «Privilege» إصدار الأحكام عليه من قبل الآخرين، ويبتعد عن الذات المثالية «Ideal Self»، والتي تستمد صورتها من الخارج من خلال المُقارنات والمُفارقات عادة، فحتما سيكون «توافقيا» ويُفضي ذلك لما هو أبعد وهي السعادة، هنا جودة حياة لا شك ولا ريب!!!

3. بطبيعة الإنسان أنه قابل للتعلم من خلال البيئة التي يعيش فيها، بمعنى أنه يكتسب سلوكيات من خلال التعلم المُباشر والمُحاكاة كالمُلاحظة والقدوة، وفي حالة وجود مُحرك معرفي سليم «بداية» للتفريق بين اكتساب الخبرة الصحيحة والخطأ، وفي ذات الوقت لدى الشخص المقدرة على تفعيل الذات «Self-Assertion»، للتعبير اللفظي عن قبوله للسلوك الصحيح وفعله ورفض ما سواه، فحتما سيكون «توافقيا»، ويقود ذلك لما هو أبعد وهي السعادة، هنا جودة حياة لا شك ولا ريب!!!

4. جُبلت النفس البشرية على حب الشهوات والقناطير المُقنطرة وتلبية نداء الغرائز والظلم والعدوان والتعدي الخ. الجميع موجود في مخزن النفس البشرية السفلي، ومُحكوم بواقع تُديره «الأنا» أو الضمير، والذي يستمد قوته من الواقع الأعلى «الأنا العليا» أو الضمير الراقي بمحتواه الديني والقيمي والأخلاقي، هنا أبواب مُؤصدة للحفاظ على ذلك المحتوى الرديء في خزانه السفلي، فلا يظهر عفنة للواقع، فحتما سيكون الشخص «توافقيا»، ويقود ذلك للتنعم بالنفس المُطمئنة، لعالم أبعد وهو عالم السعادة، هنا جودة حياة لا شك ولا ريب!!!

5. نحن نعيش مع بشر ولسنا على قلب واحد ومن سمات البشر الخلاف والاختلاف، يُجمعنا كل شيء، بداية الأسرة النووية فالمُمتدة ثم المُجتمع المحلي والعام ثم مُجتمع العمل، ليصبح العالم كله ككرة مُجتمعية صغيرة، هنا مزيد من الخلاف والاختلاف وتعارض المصالح واختلاف المشارب وتعدد الأهواء وتقاطع الرغبات الخ. امتلاك ما سبق ذكره أعلاه في وجود قواعد مهارية «Skills» تتعلق بالتواصل ومهارات العيش وحل الخلاف والاختلاف والتغاضي مع القوة والتسامح مع القدرة والتغافل مع البصيرة، والتجاوز مع الحذر والتخطي مع التأني، الجميع مهارات حياتية متى ما توافرت للشخص عاش «توافقيا»، لينعم بسعادة، هنا جودة حياة لا شك ولا ريب!!!

جميع ما ذكر أعلاه من مُقومات الصحة النفسية على المستوى الفردي والتي يصل خيرها ونعيمها ليشمل البدن بصحة وعافية، مُتجاوزا ما هو أبعد من ذلك، ألا وهو البعد المُجتمعي، لمُجتمع آمن ومُنتج ومُزدهر.

لا تأتي مثل هذه المُقومات الخمسة للصحة النفسية في «بعدها الفردي» بالتمني ولا من خلال أحلام اليقظة ولا من خلال قراءة كتاب أو حضور دورة أو نشاط سنوي توعوي، وإنما تأتي من خلال برامج رصينة «لتنمية الصحة النفسية وتعزيزها»، تُعد من قبل مُختصين أكفاء وتُنفذ وفقا لسياسات وإجراءات وأدلة تشغيلية لعالم تعزيز الصحة النفسية ورفع سقف جودة الحياة، والذي أصبح مُؤشرا لتقدم المُجتمعات والدول والشعوب، تستهدف الفرد والأسرة والمُجتمع العام والمؤسساتي، لا ينقصنا بفضل الله شيء سواء إيجاد مثل هذه البرامج بمرجعيات علمية ومهنية، أولت قيادة حكومة هذا البلد العظيم أهمية قصوى لجودة الحياة في بعدها المُؤسساتي بمشروع وطني عملاق لجودة الحياة، ويتبقى دور تنمية الصحة النفسية وتعزيزها على المستوى الفردي والأسري والمُجتمعي من خلال الجهات ذات العلاقة بمشروع تعزيز الصحة النفسية، الكل مُطالب بتحقيق هذا المطلب لجودة حياة يستحقها الجميع، أقول وأكرر «الحياة جودة والجودة تُصنع»، لا زال للحديث بقية بحول الله.