أستطيع أن أقول إني كنت زمان أعاني من مرض الاكتئاب، ذلك لأن الخاصية المضحكة المأساوية للاكتئاب أن الشخص الذي يبدأ يعاني منه لا يحس ذلك وإنما يغوص في حالته دون أن يدري.

والاكتئاب ليس هو (الزعل) كما هو شائع ومعروف عنه، ليس هو الميل للحزب والوحدة.. إلخ.. وإن كانت هذه بعض أعراضه. الاكتئاب علميا هو نوع من أمراض (القلق) النفسي، ويحدث كرد فعل لا واع لمشاكل عقلية ونفسية عقلانية وغير عقلانية. وأنا حين كنت مصابا بالاكتئاب كان الأطباء حين يذكرون هذا لي، لا أجد لكلامهم معنى أو صدى في نفسي، فقد كنت داخل الحالة ومن يكون داخلها لا يستطيع أن يعرف لحالته سببا، بل هو لا يدرك أصلا أنه غير طبيعي، كل ما في الأمر أنه بعد أن يشفى يحس أنه فعلا كان دائما متوتر الأعصاب، يزدرد وكأنما رغما عنه الطعام والشراب، ويتجرع الحياة اليومية بمرارة. يقوم ولا رغبة لديه أن يقوم من نومه، فاتر الهمة تجاه كل شيء، الهدف هدفه اليومي، وهدف حياته أصلا غير واضح مطلقا أمام عينيه. يتخبط، تارة تعتريه حالة من المرح الكئيب المبالغ فيه، وأحيانا يبكي وكأنه حالا فقد أبويه وأصبح طفلا يتيما محاطا بالظلام الكامل. أحيانا أخرى تعتريه نوبة تمرد هائلة وفعلا كالسجين المحاصر حين يحاول الفرار، يتمرد ويرتكب حماقات، ويشبع نفسه بكمية حقد مفاجئة على شخص ما أو وضع ما، وكأنه هو السبب في كل متاعبه، حالات تمرد ومحاولات لإخراج الطاقة العدوانية الكامنة في كل البشر، والتي تتحول عند الأصحاء الأسوياء إلى طاقة إبداع مثلا، أو قهر عاقل للظروف المعوقة، أو الأشخاص المعوقين، أو طموح زائد للوصول إلى مراتب أعلى، تخرج عنده على هيئة طاقة طفولية محطمة، تخربش وتجرح وتبقر بطون الكراسي وأحيانا بطون الناس.

أعراض كثيرة، كثيرة لا حصر لها، وتأخذ عند كل إنسان طابعا خاصا به نتيجة ظروفه وتكوينه وشخصيته، ولكن دائما هناك علامات مشتركة لدى المصابين بالاكتئاب، خاصة ذلك الإحساس الباطني الممض الذي وصفه علماء النفس بقولهم إن الشخص المكتئب يصبح هدفه اللا واعي وكأنه يريد أن ينكمش على نفسه، ويتحول إلى جنين يعود من حيث أتى إلى رحم أمه، أو باختصار أدق، يريد العودة إلى العدم الذي خرج منه، الموت.

جربت كل الأطباء هنا وفي الخارج، وكل عقاقير الدنيا أخذتها ولم أشف، ذلك لأن الحالة كانت أكبر مني، وكان الجزء الأكبر منها راجعا إلى القلق العام على مصيرنا، فكأنه القلق بلا حل سريع يحدث في حياتي، وأراه القلق بلا مخرج.

ولم أكن أعرف أن عقلي العميق جدا يعمل في اتجاه آخر، يريد الموت ويطلبه حتى أني كثيرا ما حلمت به يأتي رقيقا جميلا كالحلم الهفهاف، أحس بروحي تنسحب من الجسد وكأنها قوس كمان تعزفه بانسحابها، ذيل لحن موسيقى وديع جدا محبب تماما، يرغب لك أن تنتظر النهاية، نهايته ونهايتك ونهاية الحالة كلها، والحصار بشغف غير متعجل ولكنه أيضاً يستعجل.

وهكذا كان لا بد أن تؤدي بي هذه الرغبة الدفينة إلى أن أواجه الموت الحقيقي ذات مرة، ليس مرة واحدة فقط، إنما عدة مرات، قد أكتبها وتكون قصة، وقد لا أفعل أبدا، ففارق كبير بين أن تراه حلما يهيئه لك عقل عميق أحمق، وبين أن تواجهه واقعا مخيفا أبشع ما فيه أنه صامت لا صخب فيه ولا ضجة كالمؤامرة، الحياة تخمد تحس بها تنطفئ. ذبالة عقلك تدرك هذا، ومرعوب أنت إلى النخاع ولا تملك شيئا، من شدة رعبك تنسى حتى من أنت، وما النهاية. وتصبح النهاية والموت والرغبات الدفينة أشياء تكرهها إلى درجة تخاف معها أن تموت من شدة ما يضج به جسدك من كره.

وكأنما كانت تلك المواجهة محكمة لا يعلمها إلا هو، فقد قربه منى تماما ليرعبني إلى درجة أن أرتد محبا إلى الحياة بأقوى وأعظم ما أستطيع. كانت حرارة اللقاء كفيلة بإذابة أي صلب وأي ماس وأي اكتئاب، كفيلة بإشفاء أي قلق واختلاعه من جذوره.

وهكذا ولدت من جديد بلا قلق أو اكتئاب.