أجزم أن ما يسمى «محور المقاومة» من دمشق وحتى طهران مروراً بالضاحية الجنوبية وقطاع غزة، لم يعش الأسبوع المنصرم أياما هادئة. لمعرفتي بذلك المحور الخائب وأسسه السياسية والعقائدية، فأنا على يقين أن الرعب عاد ليدب في قلوبهم من جديد، بعد بُرهة من الهدوء. أتفهم جيداً أن بندر بن سلطان لا يُشكل لهم رقماً سهلاً في معادلة سهلة. بل على العكس. هو أصعب الأرقام في أعقد معادلاتهم. بندر بالنسبة لهم شخصية مرعبة أينما حل، وأينما ذهب. وحتى وإن غاب عن الأنظار.

الحديث عن القومجية المقاومين. وفي رواية «المقاولين» مُمتع. ومن هذا الباب أتساءل هنا لماذا يهاب ذلك المحور بندر بن سلطان؟. الجواب، أعتقد أن ذلك المحور الهزيل بحاجة إلى شخصية يؤمن بأنها قوية وغير قابلة للاختراق ولا الضعف، يسعى من خلالها إلى تعليق فشله السياسي عليها، عبر اختلاق الأكاذيب وشيطنة تلك الشخصية، لخلق هالة تُعلّق عليها عناصر الكراهية، وبالتالي يسهل شحن المؤيدين وكسبهم في نفس الوقت.

بالمعنى الواضح «استغفال» للقواعد الشعبية إما بالعاطفة، وإما صناعة شخصية - كما أسلفت- ترمى عليها كل عوامل فشل المحور المقاوم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى ذلك أسلوب أو سياسة لمحاولة اغتيال الخصوم معنوياً، لكنهم في كل مرة يُعيدون اللعب مع الشخص الخطأ، ويفشلون. فلم يتمكنوا من اغتياله معنوياً، حين قال بشار الأسد يوماً ما في خطابٍ جمع المؤيدين له «من المصفقاتية»، ومُرددي شعار «الله سورية بشار وبس».. «لا تعنينا البندريات.. ولا العنتريات».

كانت تلك إشارة من الأسد إلى تحميل الأمير بندر مسؤولية اندلاع الثورة، وليس آلته العسكرية.! كان مُضحكا فخامة الرئيس حينها، وحتى الآن. ولم يغتاله معنوياً حزب الله حين وجه أصابع اتهامه للأمير في مقتل القيادي عماد مغنية. وباءت محاولات جماعة الإخوان الإرهابية قُبيل إزاحتها من المشهد السياسي في مصر، حين قال خيرت الشاطر إن زيارةً سرية تم رصدها للأمير اجتمع خلالها بقوى المعارضة أو الثورة ضد الجماعة. ذلك في نظري أمرٌ مكشوف وتلك كانت مقدمة لا تستحق أكبر من تلك المساحة.

الأهم وما يعني لي في قصتي هذا الأسبوع ليس تفسير حديث الأمير، فهو لم يدع لنا غير الحقيقة، والحقيقة وإن كانت قابلة للنقاش، إلا أنها غير قابلة للتحوير. إنما سأبحث في أسباب الحديث، ومن هذا الجانب يحق طرح بعض الأسئلة، أولها لماذا بندر بن سلطان؟. وفق فهمي المتواضع، لعدة أسباب، أهمها أنه شخصٌ موثوقٌ به، وذو مصداقية عالية، في الدوائر المحلية والإقليمية والعالمية. من هذا المحور يؤخذ حديث الرجل على محمل الجد باعتباره مخزناً للأسرار والحقائق. والسؤال التالي، ماذا أراد بندر بن سلطان؟.

لم يُرد إطلاقاً تعرية القائمين على القضية الفلسطينية، فهم في الأساس ليسوا بحاجة إلى تعرية. العالم بأسره يفهمهم. لكن الأمير أخذ على عاتقه توجيه رسائل للجيل السعودي الحالي، اذا اعتبرنا أن أكثر من نصف الشعب السعودي في سن الشباب، أو ما دون الثلاثين عاما. من هنا كانت مهمة توعية هذه الشريحة واضحة، وأعتقد أن هناك رغبة جامحة لوجود «قوة ناعمة» وعزيمة شعبية تقود نفسها ولا تُقاد، للذود عن سياسات الدولة، وهو أمر واضح بين سطور ما قاله الرجل.

ومن جانبٍ موازٍ، أتصور أن خطاب الأمير بندر وحديثه، سيلقي بظلاله على الخطاب الإعلامي المحلي والسياسي للدولة، مع الأخذ بالاعتبار التقدم خطوة للأمام في خط تسمية الأمور بمسمياتها، ووضع الوطن وقضايا الدولة، أولويةً لا يسبقها أي ملف، بالمختصر «قواعد اللعبة اختلفت». هذا بالمعنى الواضح والصريح.

وفي سياق ذي صلة بالأمر، يفترض لفت النظر إلى أن أطرافاً عربية امتهنت التكهن وتوجيه الشارع العربي مؤخراً وفقاً لمصالح مفهومة. وقد أخذ حديث الأمير بندر حقه من التكهنات التي تمحورت حول أن الحديث تمهيد - ربما - لصفقةٍ معينة مع إسرائيل. وهذا غير صحيح. فالمملكة ملتزمة بمبادرة السلام العربية التي أطلقها الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في بيروت عام 2002، ناهيك عن أن السعودية لا تعتمد في سياساتها على التمهيد بالمطلق، إنما هي دولة قرار لا يقبل التردد أو التذبذب، ولا يتسع المجال لذكر القرارات التي اتخذتها الرياض دون تمهيد. هنا فقط وجب التنويه لقطع دابر تلك التكهنات.

أجزم أن من يفهم سياسة المملكة، يُدرك أنها تتجنب المهاترات والمزايدات. وتُجيد فن العمل بصمت وبلا بهرجة وبعيداً عن الضجيج، ويعي المتابع أنها استمرت في مساندة القضية الفلسطينية على مدى سنوات. إذ لا يكاد يخلو مجلس وزراء أسبوعي لا يحمل في بيانه تأكيداً على حرص المملكة على القضية التي تضعها في أول سلم اهتماماتها. فما يهم المملكة بالدرجة الأولى القضية والشعب، لا القيادات المتناحرة في الأساس فيما بينها، والتي تنتهج منهج التخوين لبعضهم البعض.

كل ذلك تضعه المملكة جانباً، مقابل عنوان عريض اسمه القضية الفلسطينية المركزية. أعود في نهاية الأمر إلى حديث الأمير بندر، الذي أتصور أنه بمثابة شهادة تاريخية وضعت النقاط على كثير من الحروف التي استهدف بها أبناء المملكة، وصوبت البوصلة، وأرى أنها حتى وإن تأخرت كثيراً وجاءت في وقتٍ عصيب تمر به المنطقة، إلا أنها – أي شهادة الأمير- كانت تُعبر عن البُعد الأخلاقي الذي تتعامل وفق إطاره الرياض مع القضية لا المستفيدين منها. أعتقد أنه أوجز بالإيضاح حين قال «القضية الفلسطينية قضية عادلة محاموها فاشلون. وقضية إسرائيل قضية غير عادلة محاموها ناجحون».

أجمل بكلمتين خفيفتين على اللسان، شرحت ديدن القائمين على القضيتين من الطرفين. كلاهما في الموضع الخطأ من التاريخ، والتاريخ لن يرحمهم، كما لم يرحم من سبقهم.