قد يتوهم القارئ للعنوان أن الحرية المطلقة تتعارض مع العقل الأصولي، وأن العقل الأصولي يقف ضد الحرية المطلقة، والمقال يحاول تفكيك المعنى لإظهار أن الحقيقة هي العكس، مبتدئاً بمعنى (العقل الأصولي) الذي تجده في كل الديانات، فالعقل الأصولي في اليهودية يصل به الأمر إلى تحريم الجوال وفي الهندوسية يصل إلى قتل ابن جلدته غاندي، وعليه قس بقية الأصوليات، وبالنسبة لمفردة (المطلق) فلا يقصد بها التحرر من أعباء وضرورات الحياة كالأكل والشرب.... الخ، فهذا إطلاق يتجاوز الواقع المادي للإنسان، فالأموات بهذا المعنى (أحرار)، ولكي نحصر مجال النقاش نقول: الحرية المطلقة فيما يقع فيه إمكان (لا أريد، ونعم أريد) فبين هذه اللاء والنعم تكمن مسائل الحرية ونقاشاتها، وتوسيع هذا النطاق خارج دائرة (لا ونعم) يتكئ على جهود (العقل العلمي) في السيطرة على الظروف الطبيعية خارج الإنسان وفي الانسان، وذلك بالاختراعات التي وسعت مجال حرية الإنسان في التواصل والحركة والتمكين ضد إرادة الطبيعة، فالطبيعة تفرض الصيف والإنسان يفرض المنازل والفنادق ذاتية التكييف مع تجريبات (الاستمطار الصناعي)، وصولاً لإشكالات الإعاقة مع الميلاد التي يحاول علاجها العلم عبر الاختراع للأطراف الصناعية أو الأجهزة المساعدة البديلة لذوي الاحتياجات الخاصة.

نعود للعقل الأصولي وسؤال (الحرية المطلقة) الذي حصرناه في إمكانية (لا ونعم) حيث يقول هذا العقل (الأصولي): لا توجد حرية مطلقة، بل الحرية (مقيدة) ثم نتفاجأ بأنه أخذ الحرية كدلالة خاصة تعنيه هو فقط دون بقية العالمين، فكل خيارات (العقل الأصولي) التي إجابته عليها (نعم أريد) هي الحد الذي يجري تعميمه على كل الناس من حوله بغض النظر عن حقهم في قول (لا، لا أريد) بينما كل ما يعترض عليه بكلمة (لا أريد) سيجري تعميمه على كل الناس من حوله بغض النظر عن حقهم في قول كلمة (نعم أريد)، وهذه الجزئية تفسر سبب انتشار مشكلة ما سمي (الصحوة) في السعودية بالعموم فلم تستثنِ أي طائفة أو مذهب، فحتى أعرق العائلات الشيعية في القطيف مثلاً، عانت من ظاهرة (أبناء الصحوة الشيعية) الذين يزايدون على تدين أبناء مذهبهم، ومن الغريب والمثير أن (أكثر) المخلصين لما سمي (الصحوة) هم ممن لا يملكون رأسمال تاريخي في الحضور الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، فكأنما الصحوة جاءت كرافعة اجتماعية تعطي تعويضاً ومنفذاً لهذا النقص، مما اضطر بعض أبناء من لا ينقصهم هذا الرأسمال التاريخي لمجاراة هؤلاء دون كثير قناعة، وللأمانة التاريخية فقد أشار (محمد زايد الألمعي) إلى موقع الفقيه داخل القبيلة العربية في ورقة عمل قبل قرابة عقدين في المجلس الثقافي بأبها للجليل صاحب السمو الملكي (خالد الفيصل)، وأن (الفقيه لا يسيف ولا يضيف) فليس له رأي لا في قرارات السيف ولا قرارات الضيافة داخل القبيلة العربية، بل يرتكز على تعليم الصغار مبادئ الدين ويملأ الفراغ الاجتماعي لبعض مسائل الشريعة الخاصة بعقود الأنكحة، دون الاقتراب من القرارات السيادية الخاصة بالقبيلة والتي يرجع فيها لأهل الحل والعقد، ويقصد بهم الرجال الذين (مارسوا الأخذ والعطاء على المستوى السياسي والاقتصادي) مع الدول التي تعاقبت على الجزيرة العربية، وكان واجب هؤلاء الرجال مراعاة مصالح قبائلهم وفق منطق (المصلحة وفن الممكن)، وليس منطق (المطوع) الذي يعتاش على فائض كدح الرجال في إعطائه ثمن تعليم أبنائهم وعقد أنكحتهم، لكن الصحوة قلبت المعادلة وحصل ما حصل، لنرى (الفقيه السياسي) بوجهين لعملة واحدة، فإما (سياسة دينية) أو (دين سياسي) وما تراه في حزب الدعوة الشيعي في العراق ستشم رائحته نفسها في حزب النهضة السني في تونس، والأفق الماركسي للوصول للدولة الشيوعية، ستراه في أفق الإسلام السياسي للوصول للدولة الثيوقراطية، فالدوغمائية الشمولية ستبقى هي، يميناً كانت أو يساراً.

إذاً فالعقل الأصولي يصر على الحرية وفق (لاءاته الخاصة) التي تعنيه ولا تعني شعباً من ملايين الناس مختلفي المذاهب والأعراق والعادات، ويسميها (العقل الأصولي) من باب المغالطة والتمويه (ضوابط) بينما هي في حقيقتها (إرادة العقل الأصولي) التي يفهمونك أنها (إرادة الله)، فما يريده الأصوليون هو الحرية المطلقة لإرادتهم التي ينسبونها (لله) سبحانه وتعالى عما يصفون، وعليه فإن من يطلب منك (حكم الله) يصرف النظر عن دعواه، فمن ذا الذي يجرؤ على القول بأنه يصيب (حكم الله) فيك، وفي (سورة الكهف) من حكاية الخضر مع موسى عبرة للمتألين على الله بذواتهم، بل هو اجتهاد بشري يقبل النقض والاستئناف لدى جهات الاختصاص، فكيف بمسائل الفتوى والأحكام التي تتبدل (بحسب الاقتضاء والإمكان باختلاف ستة أمور: الأزمنة، الأمكنة، الأحوال، العادات، النيات، الأشخاص) فكيف يمكن تحويل الشرط الخاص الفردي شرطاً عمومياً، ولهذا فالعقل الأصولي (الحديث) سينكر على القرون الأولى مسائلهم في الزواج من نساء أهل الكتاب والحريات الخاصة بكل دين (ينسب لابن قدامة في المغنى 10/‏223 ما يلي: ليس للمسلم إجبار زوجته الذمية على الاغتسال عند مالك والثوري ورواية عن أحمد والشافعي، لأن الوطء لا يقف عليه، وإن أرادت شرب

ما يسكرها لم يكن له منعها ــــ نص عليه أحمد ــــ لأنها تعتقد إباحته في دينها....)، وغير ذلك كثير في مسائل تجاوز بها الفقهاء الحريات التي يعيشها العالم الآن، ولكن العقل الأصولي هو (عقل شمولي) سواء ظهر على شكل ستالين أو على شكل البغدادي.

العقل الأصولي يريد ضوابط تتجاوز الإمكان الطبيعي للبشرية، ضوابط لا يمكن قياسها لنتائج لا يمكن إثباتها، فمن هو الذي يغامر لوضع ضوابط من خلالها نقيس مدى (إيمان الدول والمنظمات والمؤسسات) أو مقدار (التقوى) الخاصة بالشعوب والأمم، إذاً فلا توجد ضوابط للحرية لدى العقل الأصولي بل يوجد (ما يريده العقل الأصولي فقط)، وبالتالي فهو يعيش إرادته الكاملة في حرية

(لا ونعم) الخاصة برغباته فقط، والتي يريد بها تأطير المجتمع وفق ما يسميه (الضوابط)، بينما الدولة الحديثة تقرر مقاصد الحريات داخلها وفق منطق (البرلمان/‏مجلس الشورى) مع وعي البرلمان الكامل بمعنى (واجب الأغلبية وحق الأقلية) لأن الجهل بهذا المعنى ـــــ والجهل موجود في بعض الناس ــ سيخلق ظاهرة تؤمن باستبداد الأغلبية داخل البرلمان، بينما الوعي بالحقوق (الإنسانية) سيجعلنا نجد منطقة مشتركة لتعايش الجميع بجناحي (الحرية والكرامة) لكل فرد من أفراد المجتمع أقلية كانوا أو أغلبية، على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم وأعراقهم.