الكثيرون لفت انتباههم إعلان هيئة الرقابة ومكافحة الفساد مؤخراً، وخصوصاً موضوع الضابط (الفريق) الذي استولى على 400 مليون ريال بشكل غير شرعي، بسبب ضخامة المبلغ، وأيضاً علو رتبة الضابط!، لكن أعتقد أن أهم فقرة في الإعلان، هي إيقاف أحد منسوبي هيئة مكافحة الفساد في قضية فساد! وهذا يدل على الشفافية والرقابة الداخلية، لأنه تاريخياً كان من أهم أدوات الفساد اختراق هيئات مكافحة الفساد عبر التاريخ. الفاسدون ليسوا أغبياء، فكلما اشتد عليهم الضغط في مكافحة الفساد، كانوا يحاولون اختراق الهيئات واللجان التي تعنى بمكافحة الفساد تاريخياً، ومعروف أن أصل كلمة (سرسري) و(السربوت)، ليس الأصل الذي نعنيه باللهجة العامية، ولكن الأصل القديم (سرسري)، هو مراقب الأسعار والأوزان قديماً، بعض التجار أغروهم ورشوهم بالمال ورجع الغش والفساد، فتم تعيين (السربوت) لمراقبة عمل السرسري، الذي أغراه التجار أيضاً بالمال وأشياء أخرى، فكان يتقاسم الرشاوى مع السرسري، ولذلك أصبح هذان اللقبان من الألقاب السيئة!

جميل ورائع جداً من هيئة الرقابة ومكافحة الفساد الالتفات لموضوع الرقابة الداخلية، وأيضاً الشفافية بالإعلان عن ذلك، وهي تمشي بخطى ثابتة على الطريق الصحيح.

سأتحدث عن سبعة أشياء مهمة تعلمناها أثناء السنوات العشر الماضية في مكافحة الفساد منذ بدأنا الكتابة وركزنا على الفساد بشقيه المالي والإداري.

أولاً: مكافحة الفساد يجب أن تكون مبدأ وعقيدة، وليست ردة فعل، أو بسبب مشكلة، وإذا حصل وتعرض الشخص للفساد فهذا يقوي عزيمته، لكن لا يشخصن المواضيع، إذا شخصنت الأمور ستفقد البوصلة. كنهج شخصي (لا أجبر أحداً على اتباعه) بعد أن بدأت أكتب عن الفساد، تعرضت لمشاكل كثيرة، لكن طول حياتي لم أتقدم لنزاهة بأي شكوى شخصية، لأني أحسست أن ذلك سيشخصن مبدئي وعقيدتي في مكافحة الفساد، وسيصبح الموضوع رد فعل أكثر منه مبدأ!

ثانياً: لا تثق بنفسك أو غيرك كثيراً، ولا يأخذك الزهو أنك تحارب الفساد كلامياً، إذا لم تتعرض لمغريات الفساد وتجرب إرادتك وصلابتك في مقاومته. إذا تعرضت لإغراء الفاسدين ومبالغ محترمة، وكنت قادراً على فعل ذلك دون أن يتم كشفك، وقررت عدم فعل ذلك، فأنت صاحب عقيدة وجهاد في مكافحة الفساد. سترى نفوساً كثيرة تغيرها الفلوس، وستتفاجأ كثيراً كيف يتغير الناس ولم تكن تتوقع ذلك، ولا تنس أن النفس أمارة بالسوء (فلا تتفاجأ ولا تيأس).

ثالثاً: لا تؤجر عقلك، وأكررها (لا تؤجر عقلك)، مر علينا ناس سمعنا كثيراً من السوء عنهم من بعض المصادر، وعندما تعاملنا معهم وجدناهم من أفضل الناس، والعكس صحيح. عندما تسمع معلومة عن شخص كن فطناً، لكن لا تؤجر عقلك واكتشف واسأل بنفسك، وقد تقابل أناساً في منتهى الاحترام، وأنت سمعت الكثير عنهم، وفي الأخير يتضح لك أن هناك خلافات مخفية، أو مصالح معينة بين ما نقل لك وبين الحقيقية، لكن الظاهرة الجديرة بالملاحظة أن لدى الفاسد عادة مستأصلة وأسلوباً معيناً وهو محاولة تدمير سمعة ومصداقية من يعاديهم حتى لا تكشف حقيقته. ربما هو شيء نفسي لديه، فهو يعتقد عندما يهاجم مصداقية الآخرين، أنه يحمي مصداقيته لأن مصداقيته مهزوزة أمام نفسه.

رابعاً: الفاسدون أذكياء في الشر، فلا تتعجب من خططهم، وسيناريوهاتهم فيها الكثير من الغرابة والجرأة، في بعض الأحيان تتعجب لدرجة التصديق. مرة قال لي شخصية كبيرة على موضوع، إلى الآن أنا متعجب كيف ألفوا السيناريو ولديهم الجرأة للكذب على مسؤول بهذا الحجم، لكي ينفذوا خططهم!! ولو لم أسمعها من فمه لما صدقت.

خامساً: بعض الناس لديهم نوع من قصر النظر، هذا إذا أحسنا النية. كان قبل سنوات يُحاجج في عدم إعلان الفساد لأنه يؤثر في سُمعة الوطن، إلخ.. وهو لا يعلم أن الوطن راسخ قوي لا يتأثر بالإعلان، وأن الشفافية هي من ستبقيه قوياً شامخاً، وتزيد ثقة البعيد قبل القريب في مؤسسات الدولة، والشكر بعد الله لقائد مكافحة الفساد وقائد سياسية الشفافية ولي العهد الأمير محمد والمفعل الحقيقي لجملة (كائن من كان)!

سادساً: البعض عنده لبس كبير في مفهوم المؤسسة والأشخاص، المؤسسات لا تتمثل بأشخاص، الوزير الفلاني أو الضابط الفلاني لا يمثل وزارته أو إدارته إذا كان فاسداً، بل يمثل نفسه فقط، وأيضاً هذا لا يمثل سوء اختيار القيادة، ربما القيادة العليا أعطته الأمانة، ولكن خانها، وهو استثناء من مجمل المسؤولين النزيهين في البلد، ونحن مجتمع بشري كبقية العالم فيه الصالح والطالح. أما النظرة التي عند البعض أننا يجب أن نكون مجتمعاً ملائكياً فهي غير واقعية، وإلا لما رأيت نزاهة تحقق في مئات القضايا مع كل إعلان، بل من المتوقع أن يكون الفساد في الوزارات الكبرى ذات الميزانية العالية، لأنها مطمع الفاسدين، لكن لا تنسوا أنه إذا وجد ضابط واحد فاسد مثلاً، فهناك عشرات الآلاف من الضباط والجنود الأبطال الذين يرخصون حياتهم لحماية الوطن.

سابعاً: الفساد وطرقه تتطور مع الوقت، فيجب أن تتطور طرق مكافحته أيضاً مع الوقت، طرق الفساد قبل عشر سنوات تختلف عن طرق اليوم، وهكذا، إنها معركة مستمرة منذ بدء الوجود، معركة بين الخير والشر، تتطور أدواتها مع مرور الزمن.

الجيل الحالي محظوظ بأننا في خضم موجة مكافحة الفساد، والكل يساعد ويشجع، لم تمر عليهم فترة سابقة من التهديدات والوعيد، لم تمر عليهم فترة إذا كنت تكافح الفساد قد تكون غير مرغوب فيك باللجان والتعيينات، والبعض يتحاشاك وتسمع أنك من النوع المنغلق و»محبكة حبتين مبادئ»، وإذا اصررت على طريقك، ينشؤون قروب واتس آب لمهاجمتك وتشويه صورتك. كل هذا بدأ يختفي، والآن العصر الذهبي لمكافحة الفساد، فبعد شكر الله، اشكروا قائد البلد شيخنا أبا فهد، واشكروا أبا سلمان عندما وعد وأوفى بحرب الفساد، ونظف الدرج من الأعلى، بعدما كان البعض في فترة سابقة يعتقد باستحالة ذلك.