أسوأ معركة قد يخوضها الإنسان هي معركة الصراع مع النفس والقيم والمجتمع، وللتغلب على تلك المعركة يجب تقبل الآخرين وعدم التعصب للفكرة والتبرؤ من العنصرية. يرى البعض ما يحصل في اليمن ولبنان وسورية وليبيا، ويتساءل: هل من أمل أن يتصالح المجتمع مع نفسه، وتعود عجلة التنمية والتعليم والصحة، وتندثر مفاهيم الصراع الطائفي والقبلي والسياسي من أجل وطن موحد يتسع للجميع، وينبذ الفرقة والاختلاف، وجعل الوطن أولا وما سواه لاحقا؟

وللإجابة علينا أن نعرف كيف تحولت رواندا من بلد ممزق، تسيطر عليه الحرب الأهلية والإبادة الجماعية، إلى بلد من أسرع دول العالم في النمو الاقتصادي. كانت رواندا مستعمرة بلجيكية، ويتكون نسيجها المجتمعي من عرقين أساسيين: قبيلة الهوتو التي تشكل %84 من التعداد السكاني، وقبيلة التوتسي التي تشكل ما يقارب %15. وتشكل المسيحية الدين الرئيسي للمجتمع الرواندي، ولا يزيد عدد المسلمين بالدولة على %10.

مع انتهاء الاستعمار جعل البلجيكيون في الهوية الوطنية مكانا لذكر العرق، وهل حامل الهوية من الهوتو أو التوتسي، وكانت هذه الخطوة هي نواة العنصرية التي تركها الاستعمار في معظم الدول التي غادرها، فهناك الشيعي والسني والدرزي واليهودي والقبطي.

مع استقلال رواندا في 1963 بدأت النزاعات العرقية، وهو ما اضطر عدد كبير من السكان إلى الهروب لدول مجاورة، خوفا من جحيم الإبادة.

وفي 1994 شن المتطرفون في قبيلة الهوتو حملة إبادة عرقية ضد الأقلية من التوتسي، وخلال فترة لا تزيد على المئة يوم قتل أكثر من مليون نسمة، وتعرضت مئات النساء للاغتصاب وبقر البطون، واستمرت المجزرة، ليكون عدد ما قتل من التوتسي ما يقارب %50 من القبيلة. في أثناء هذه الحرب لم يجد الفارون من جحيم القتل سوى مساكن ومساجد المسلمين الذين استضافوهم وأووهم. توقفت الإبادة الجماعية وانتهت الحرب الأهلية، لتصبح رواندا أكثر البلدان في العالم تخلفا ورجعية، حتى تولى الرئيس بول كاجامي (من التوتسي) رئاسة الدولة في 2000، وكان مبدؤه أن المواطن هو أساس النجاح والنهوض بعد الكبوة، فألغى أولا تصنيف السكان إلى هوتو وتوتسي في البطاقة الشخصية، وغير علم البلاد والنشيد الوطني، لمحو أي أثر من الماضي، وفتح البلاد لعلاقات دبلوماسية مع الغرب وبقية الدول بأفريقيا، وخفف من التغلغل الفرنسي بالبلاد بعد ثبوت دعم الفرنسيين الحرب الأهلية، وأقر اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية في التعليم.

وفي عهده تحسن التعليم والرعاية الصحية، وحقق الاقتصاد الرواندي نموا %95 في 2016، وبلغ الناتج المحلي 9 مليارات دولار، حتى أصبحت رواندا في المرتبة الـ48 عالميا في الاستقرار السياسي، والـ29 في سرعة الاقتصاد وإنشاء الشركات، وأصبحت أكثر دولة في أفريقيا جذبا لرجال الأعمال والاستثمار، وصنفت الأمم المتحدة عاصمة رواندا، مدينة كيجالي، أجمل مدينة بأفريقيا في 2015.

حاليا رواندا متقدمة عالميا في النمو الاقتصادي وريادة الأعمال والصحة والتعليم، ومستوى دخل الأفراد، فمتى يستفيق عقلاء اليمن وسورية وليبيا ولبنان، ويتصالحون مع أنفسهم من أجل مستقبل أجيال ووطن؟