في خضم بحثي وانشغالي بموضوع «النماذج العقلية» من أجل التحضير لورشة عمل، وقعت على معلومات أثارت انتباهي، ووجدت فيها الكثير من الفائدة في توضيح أهمية ودور المعتقد في التأثير على النماذج العقلية، وبما أنني كالعادة أحب أن أشارك بالمعلومات التي أجدها قمت بترجمة ما وجدته لدى المؤلف «Theodore M. Snider» في كتابه And Jacob Digged a Well: Faith in the Twenty-First Century، وسوف أعرض لكم ما يخص الموضوع مع تغييرات بسيطة للنص أدخلت من خلالها بعض تأملاتي عن الموضوع.

يقول: بالنسبة للدماغ فأهمية البقاء على قيد الحياة تأتي دائما قبل أهمية البقاء على الوعي، بمعنى إذا تعرضنا لإصابة شديدة لدرجة أن أجسامنا لديها طاقة كافية فقط لدعم الوعي أو ضربات القلب ولكن ليس كليهما، فإن الدماغ ليس لديه مشكلة في الاختيار - فهو يضعنا في غيبوبة، وهكذا، لأن نشاط الدماغ يخدم غرضًا أساسيًا ألا وهو البقاء، فإن الطريقة الوحيدة لفهم أي وظيفة دماغية بدقة، هي فحص قيمتها كأداة للبقاء.

من المعروف لدينا أن حواسنا تشكل جزءًا كبيرًا من أداة البقاء، فمن الواضح أننا يجب أن نكون قادرين على إدراك الخطر بدقة من أجل اتخاذ إجراءات مصممة للحفاظ على سلامتنا، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، على سبيل المثال نحتاج إلى أن نكون قادرين على رؤية الأسد وهو يهاجمنا أثناء خروجنا من كهفنا أو سماع اللص وهو يقتحم منزلنا في منتصف الليل، ومع ذلك، فإن الحواس وحدها لا تكفي كأجهزة كشف فعّالة للخطر، لأنها محدودة للغاية في كل من المدى والنطاق، لأنه يمكن أن يكون لدينا اتصال حسي مباشر مع جزء صغير فقط من العالم في أي وقت، ولهذا يعتبر الدماغ أن هذه مشكلة كبيرة لأنه حتى الحياة اليومية العادية تتطلب أن نتحرك باستمرار داخل وخارج نطاق تصوراتنا للعالم كما هو الآن.

يقودنا هذا إلى فهم أن الاعتقاد هو أداة بقاء للدماغ مصممة لمساعدة حواسنا الأخرى في تحديد الخطر، حيث تعمل المعتقدات على توسيع نطاق حواسنا حتى نتمكن من اكتشاف الخطر بشكل أفضل، وبالتالي تحسين فرصنا في البقاء على قيد الحياة أثناء انتقالنا إلى منطقة غير مألوفة أو خارجها، وبهذا يتضح لنا أنه وظيفيًا تعمل المعتقدات كخرائط داخلية توفر افتراضات لتلك الأجزاء من العالم التي ليس لدينا اتصال حسي فوري معها.

لنأخذ الحالة التالية على سبيل المثال: «عندما تكون جالسا في غرفة المعيشة لا يمكنك رؤية سيارتك، وعلى الرغم من أنك أوقفتها أمام المنزل فباستخدام البيانات الحسية الفورية فقط، لا تعرف ما إذا كانت لا تزال موجودة، ونتيجة لذلك، فإن البيانات الحسية في هذه اللحظة ليست ذات فائدة كبيرة بالنسبة إليك فيما يتعلق بسيارتك، ومن أجل العثور على السيارة يجب أن يتجاهل عقلك البيانات الحسية الحالية (والتي، إذا تم الاعتماد عليها بالمعنى الحرفي تمامًا فإنها لا تفشل فقط في مساعدتك في تحديد موقعها، ولكنها تشير في الواقع إلى أنها لم تعد موجودة)! فينتقل العقل هنا بدلًا من ذلك إلى الخريطة الداخلية لموقع السيارة، ألا وهو اعتقادك بأن سيارتك لا تزال في مكانها حيث تركتها، وعليه وبالاعتماد على اعتقادك بدلًا من البيانات الحسية، يمكن لعقلك أن «يعرف» شيئًا عن العالم الذي ليس لديك اتصال حسي فوري معه، وهذا بدوره «يوسع» مجال معرفة عقلك بالعالم والاتصال به. (نعم، قد يكون شخص ما قد قام بسرقة السيارة، وفي هذه الحالة يكون نظام معتقداتك قد زودك بمعلومات غير صحيحة، وهذا أحد محاور ورشة العمل)، ولكن لنعد إلى المثال الذي ذكر: بهذا المعنى، يمتلك الدماغ القدرة على الوصول إلى ما هو أبعد من نطاق حواسنا المباشرة من خلال المعتقدات والافتراضات التي تستند إلى هذه المعتقدات.

المغزى هنا أنه عندما تتعارض البيانات والمعتقدات، لا يعطي الدماغ الأفضلية تلقائيًا للبيانات، وهذا لأن المعتقدات ـ حتى السيئة منها، أو المعتقدات غير العقلانية، أو المعتقدات السخيفة، أو المعتقدات التي تبدو للبعض الآخر غير عقلانية أو جنونية، غالبا ما لا تختفي عند مواجهة الأدلة المتناقضة! لا يهتم الدماغ بما إذا كان الاعتقاد يطابق البيانات أم لا، ما يهتم به هو ما إذا كان الاعتقاد مفيدًا للبقاء فقط لا غير! لذلك، في حين أن الجزء العلمي والعقلاني من دماغنا قد يعتقد أن البيانات يجب أن تحل محل المعتقدات المتناقضة، إلا أن دماغنا على مستوى أولي أو أساسي أكثر أهمية، ليس لديه مثل هذا التحيز، إنه متحفظ للغاية حين يتعلق الأمر بالتخلي عن معتقداته.

نأتي هنا إلى سؤال مر علي ووجدت أن التالي ربما لا يقدم أفضل إجابة، ولكنه يقدم توضيحا قد يؤدي إلى فهم الخلفية وأساس المشكلة، كان السؤال: لماذا لا يرى الناس في المعابد أو التجمعات الدينية زيف وتلاعب بعض الكهنة أو القساوسة؟!

جميع أنواع المعتقدات لا تحدث بشكل فردي أو في فراغ، فمن المهم أن نلاحظ أن المعتقدات ترتبط بعضها بعضا في نظام متشابك بإحكام، بحيث يخلق نظرة الدماغ الأساسية إلى العالم، والعقل على هذا النظام، ومن أجل البحث عن الاتساق والسيطرة والتماسك والسلامة في العالم الخارجي للفرد، يجد أنه يجب أن يحافظ على هذا النظام سليمًا من أجل الشعور بأن البقاء على قيد الحياة يتحقق بنجاح، وهذا يعني أنه حتى التغييرات الصغيرة فيما يعتقده المرء يمكن أن تؤدي إلى انهيار وتتسبب في انتقال الدماغ إلى وضع البقاء على قيد الحياة! بهذا المعنى، فإن أي تغيير في المعتقد، بغض النظر عن مدى عدم أهميته أو حتى عدم عقلانية كينونته، يمثل تهديدًا للبقاء! لهذا وعلى سبيل المثال، عند مواجهة أطنان من البيانات التي تشير إلى أن الكاهن أو الداعية مزيف، سيرفض المؤمنون في الجماعة منح هذه البيانات أي مصداقية، لأنه يُنظر إلى أي شيء يتحدى مصداقية الرجل «المزيف» على أنه تهديد لنظام إيمان الفرد بأكمله! بل أبعد من ذلك، يُنظر إليه على أنه تهديد للبقاء على قيد الحياة، وبالتالي على الكائن الحي!

وعليه فإنه في حين أن البيانات تعتبر دائما ضرورية، نادرًا ما تكون كافية لتغيير معتقدات الفرد أو سلوكه أو توجهه الفكري، فإذا كنا نبحث عن حدوث بعض التغيير فيجب أن نتجاوز البيانات المحددة، ونعبر لاستكشاف الآثار التي سيحدثها تغيير المعتقد أو السلوك أو التوجه الفكري على النظرة الشاملة (للعالم من حولهم) الأساسية للشخص أو المجموعة، وهذا لأن عملية التغيير هذه كما تم شرحها في الفقرات السابقة، تُعتبر تهديدًا لشعور الدماغ بالبقاء، وهنا يجب إدخال التغيير بطريقة تلبي احتياجات الدماغ للحفاظ على الشعور بالكمال والاتساق والتحكم في الحياة، بمعنى آخر يجب علينا معالجة القلق الوجودي الذي يُثار في أي وقت يتم فيه تحدي المعتقدات، وهنا يتضح لنا أن المهمة فلسفية ونفسية بقدر ما هي علمية مصحوبة بمجموعة من البيانات والأدلة الموثقة والدقيقة..