تحيا الأمم ما بقيت لها أريحية وإعجاب، وتموت أو تدخل في دور الشيخوخة الفانية إذا نضب فى نفوسها معين الأريحية، وفترت فيها حرارة الإعجاب فإن المعجب بإنسان يثق ويرجو ويحس ويقدر، ولا يعوز الحي شيء من الحياة إذا اجتمع له الثقة والرجاء والإحساس والتقدير، وإنما يفتر الإعجاب في النفس حين تخلد إلى العجز والراحة، وتيأس من النهوض والمجاراة في مضامير السعي والحركة، فهي إذن غريبة عن مطالب الحياة، ومطالب الحياة إذن غريبة عنها، وكل فوز لا تشترك فيه ولا ترجو أن تشترك فيه، هو شيء لا يعنيها ولا يستدعي اهتمامها، ولا يربطها إليه سبب فيستوي عندها ما يستحق الإعجاب وما ليس يستحقه، وتنظر إلى ميدان المفاخر كما ينظر المقعد إلى ميدان الحرب، لا يغشاه ولا مأرب له فيه، نظرة فتور هي إن لم تكن نظرة كراهة ونفور.

من البلاد الحية نسمع أصداء الإعجاب كل يوم ترتفع عالية مجلجلة في أنحاء العالم، ببطل متفوق في باب من أبواب القدرة والمهارة، وما هو إلا أن يتفوق البطل في ذلك الباب حتى تشمله الدنيا عندهم بحياطتها، وتعفيه من صغائر همومها وتقصر آماله كلها على تجويد فنه، والاحتفاظ لأمته بسمعتها وسمعته فهو ما عاش في يسر وحفاوة وتكريم واطمئنان، وهو في كفاله أمته من الساعة التي يرفع فيها ذكرها بين الأمم ويبوئها مكان الزعامة في فئة بين طلاب ذلك المكان، والأمم هي الرابحة بهذا الجزاء وهي الرابحة بما تعطيه، فضلاً عن ربحها الجزيل بما تأخذه وتحتويه، فهي لا تعطي إلا وهي جائشة النفس بالفخر والأمل والشعور والإقبال على الحياة وفي بعض ذيلك الجيشان الذي يثيره فيها البطل بفوزه وغلبته جزاء لها وأعظم به من جزاء، والحكومات تشارك الأمم في هذا وتنعم بالأنواط والألقاب على السابقين، بل على تابعي السابقين أيا كان الميدان الذي فيه يسبقون – تنعم على سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح والطائر والبارع في كل مطلب – ووسامها ولا ريب أقل من الوسام الذي ينيلها إياه بطلها بما يلبسها من فخار السبق، ويقيضه لها من مزية التفرد في العالم بصفة من الصفات المأثورة، فحسب الفرد من واجب يؤديه لأمته أن يجعلها الأولى بين مثيلاتها مرة واحدة وأن يرفع علمها فوق الأعلام لحظة واحدة، وأن يجعل اسمها أرفع من سائر الأسماء في صيحة واحدة، حسبه أن يصنع لها ذلك ليكون قد استحق هو التنويه بين الأفراد واستحق مع التنويه أن يعيش عمره المعيشة التي تليق بمن هو فخر وطني ومجد ملايين.

بل يقل العجب من تمجيد سائق السيارة ولاعب الكرة والسابح والطائر وأمثالهم في مضامير الألعاب والجهود، لأن هؤلاء يفيدون ويصلحون وليس عملهم لهواً ولا نزجية فراغ، وهناك سابقون في مضامير أخرى لا فائدة لها ولا مجد فيها للسابقين مثلاً في لعب النرد أو لعب الشطرنج أو تجرع الشراب والتهام الطعام فهؤلاء – على قلة شأنهم – لا يحرمون في الأمم الحية حظهم من الفخر أو حظهم من المال، ويعيشون بقية أعمارهم بما يجنون من أرباح الرهان في هذه المضامير لما سافر «شارلي شابلن» من أمريكا إلى أوروبا خرجت لندن كلها لاستقباله في حشد قلما شهده ملك من كبار الملوك، وكتبت إحدى الصحف الفرنسية تعجب لذلك وتتساءل: ترى لو كان الطبيب فنسان – صاحب لقاح التيفوس – بين الجموع المهللة الشارلي شابلن أما كانوا ينحونه عن الطريق ليقبلوا على بطلهم العزيز؟

فلم تمض إلا أيام حتى زار شارلي شابلن باريس فكان استقباله فيها كاستقباله في لندن وكانت عناية الفرنسيين والفرنسيات كعناية الإنجليز والإنجليزيات، وكتبنا يومئذ نعقب على ما كتبته الصحيفة الفرنسية لنقرر هذا المعنى في أخلاد الذين يجهلونه من المصريين، هل من الظلم حقا أن يظفر شارلي شابلن بذلك الإعجاب وأن يحرمه أمثال فنسان في حياتهم؟! لعمري إن الإنسان ليرى سمات العدل في هذه الأطوار التي تشاهد في الجماهير، فإن الممثل الهزلي لن يظفر بعد موته بكثير ولا قليل من الإعجاب الذي هو حقيق به فمن الإنصاف أن يكافأ في حياته هذه المكافأة على إضحاك الناس وتسرية همومهم وتنشيط عقولهم وقلوبهم، وما هو بالعمل الحقير ولا القليل الشأن في هذه الدنيا المفعمة بالشواغل والهموم والأمر على خلاف ذلك مع فنسان وأمثاله فإن ذكرهم لا ينسى بعد موتهم والإعجاب بهم يبقى زمانا وهم تراب في لحودهم وليس هذا الإعجاب بالعملة الزائفة بل هو عملة صحيحة مقومة يقبلها كل إنسان جزاء لأعماله، وهناك ضرب من الاقتصاد الشعوري غير مقصود في حركات الجماهير من هذا القبيل فإن الطبيب «فنسان» يفيد بعلمه ولو لم يلق هتافا وتهليلاً!. أما شارلي شابلن فهل تراه يسخو بمواهبه بغير الهتاف والتهليل؟ أو هل يمكن التفريق بين الوقت الذي يضحك الناس فيه والوقت الذي يهللون له فيه يهتفون.