تطالعنا على خارطة الزمن الإنساني بعض المُبهجات، يأتي في مقدمتها العلم والفكر والثقافة التي بمجرد سبر دروبها في أي بيئة إيجابية حاضنة نجد من المتع الذهنية والفكرية، اعتقادًا وقولاً وممارسة؛ ما يرفع مستوى الثقة في أذهاننا بجمالية الحياة المعرفية والفكرية والثقافية التي كانت نتيجة وسببًا في تحسين ظروف الحياة الإنسانية عبر العصور، حيث أقامت الأمم لِقيم العلم والثقافة والمعرفة مُثلًا عليا تحتفي بها البشرية بامتداد الأزمنة، دعمًا للحراك الإنساني نحو المزيد من النضج واكتمال الوعي الحضاري.

غير أن تلك الدروب التي غمرتنا بالبهجة الثقافية قد نجد بها بعض الفواصل التي تشي بعكس ذلك، بما تطالعنا به من حالات التدافع الفكري الذي تحول في بعض مراحله إلى صراع، وظف فيه جميع الأطراف الكثير من الأدوات لحصار وقمع المخالفين لهم، في الضفة الأخرى الذين اصطلوا بنار مخالفيهم ونظرائهم في الفكر والثقافة، حتى تحول الكثير منهم إلى جلادين أو أدوات في أيدي الجلادين لحظة تمكنهم من السيطرة على المشهد السياسي والاجتماعي في إحدى ظرفيات الزمن الإنساني الممتد بشواهده لمئات وآلاف السنين.

إننا وبالتأمل قديمًا وحديثًا يمكننا القول بثقة كبيرة إن معاناة أهل الثقافة والفكر تبدأ من ذوي الاشتغال بالشأن الثقافي، والفارق الذي صنع تلك المعاناة هو ضدية ثقافية أو فكرية أو فلسفية بين مختلفين، تحول أحدهما لاستغلال ما يملكه من تمكين سياسي أو اجتماعي لفرض رؤاه ومعتقداته بقوة السِنان لا بقوة الفكر واللسان، والنماذج كثيرة في التأريخ الإنساني، يمكن استعارة بعض فصولها للإشارة إلى ما عاناه الكثير من المثقفين سجنًا وتضييقًا، وربما حتى قمعًا وتنكيلًا، كما حصل قديمًا للفيلسوف اليوناني «سقراط» الذي تمالأ عليه خصومه من مثقفي زمنه حتى أوردوه الهلاك؛ لأنه يفسد الشباب بآرائه -على حد زعمهم، وكما حصل حديثًا للشاعر السلفادوري «روك دالتون» الذي عبر متن الحياة يحمل مع رفاقه المثقفين هم وطن وقصة كفاح، لكن المؤسف أن من كان سبب هلاكه هم رفاقه من مثقفي تلك الحقبة ورفاق النضال لاختلاف منطلقاته الثقافية والثورية عنهم، حتى غدا ذلك الاختلاف مبررًا لإعدامه.

في تأريخنا الإسلامي تبادل المختلفون ثقافيًا جولات الصراع، وسقط الكثيرون في أثناء هذا التدافع، ولن تعوزنا النماذج لكثرتها، يأتي موضوع القول بخلق القرآن في العصر العباسي بين المعتزلة والسنة في مقدمتها، والذي كان خلافًا حادًا بين مثقفين استغل أحدهما حظوته لدى السلطة وقربه من القرار السياسي ليفرض رأيه عِدة سنين حتى استعاد الفريق الآخر فُرَصه لدى أهل النفوذ فعالج خصومه بما هو أشد؛ تنكيلًا وسجنًا وإقصاء.

ولعل نماذج ابن رشد، وابن سينا، وجابر بن حيان، وفرج فودة، وحامد نصر أبو زيد، ونجيب محفوظ، وعلي الوردي، وغيرهم، تتيح لنا الإشارة إليهم كضحايا بالنظر لما آل إليه أمرهم بعد اختلافهم الفكري الذي دفعوا ثمنه من استقرارهم وحريتهم، وحتى حياتهم الشيء الكثير، مما حدا بالكثير من المثقفين أن يمارس بعض التُقْية والاختباء الفكري في الكثير من المواقف عند شعورهم بالتهديد، وعدم القدرة على المواجهة في بعض البيئات التي تعيش أحادية فكرية ولا تسمح بالمزيد من الأفكار إلا ما كان موافقًا للنسق العام، فينزوي حينها الكثير من المثقفين بعيدًا عن الأضواء متشبثين بقدر كبير من الحذر، مع محاولة التكيف مع الأنماط السائدة فكريًا وثقافيًا حتى لا يصبحوا بدورهم جزءًا من معاناة قد تطالهم عند أي مواجهة يتوهمها أحدهم في أي جهة مقابلة.

إن المجتمعات المنفتحة ثقافيًا بالصورة التي تتقبل التنوع الفكري ضمن حدود المجتمع الإثنية والمذهبية والفكرية، تتمتع بصحة عالية وقدرة على مواجهة المتغيرات دون خوف؛ لأنها من خلال تلك القدرة تكتسب مرونة ونضجًا ترى في الاختلاف ثراء وتنوعًا، وليس خطرًا وتهديدًا، مما يشجع المزيد من التأمل والتفكير للإسهام في رفع الوعي والارتقاء بالممارسات المجتمعية إلى أعلى مستوياتها التي تدعم الإنسان ليكون أكثر وعيًا وإنتاجًا وانتماء للمحيط الذي يعيش فيه، لأنه يشعر بذاته وبتقدير المجتمع له، ذلك التقدير الذي يسمح له أن يشعر أن تعدد الألوان لا يلغي بعضها بعضًا، وأن مصادر الضوء عندما تتعدد فإنها في نهاية المطاف تتوحد ويبلغ النور مداه.