قبل أن أصل إلى اليابان بيوم، كانت الجزر اليابانية الأربع تهتز بحدث وإن لم يكن الأول من نوعه في تاريخ اليابان، فإنه فريد في بابه، وخطير وغريب..

كان «ميشيما» كاتب اليابان الأول، وأعظم روائي ظهر فيها بعد الحرب، كانت هذه الشخصية الفريدة ذات الأبعاد العشرة.. فهو كاتب، ومخرج سينمائي، وممثل، وبطل مصارعة وركوب خيل، ورياضي، وقائد جيش خاص من صنعه، وذو نهم شديد إلى النساء، وذواقة للساكي الياباني الشهير المصنوع من الأرز.. شخصية تكاد تكون أشهر شخصية أدبية في كل شرق آسيا، كان قد أقدم على الانتحار بالطريقة المشهورة «الهيراكيري».

وكانت ضجة الحدث داخل اليابان وخارجها على أشدها، فقد كان السبب غريبا، والملابسات أغرب، وشيء كجو الأساطير القديمة، كنفحة من رائحة آسيا الغامضة الدفينة قد بدأت تتسرب وتداعب الأنوف..

ولم يحنقني شيء في هذا كله قدر حنقي على «آرثر ميللر» الكاتب المسرحي الأمريكي المعاصر، وأنا كنت دائما بيني وبين نفسي أتحاشى الحكم على ميللر، فمن قراءاتي ومشاهداتي لأعماله كنت أسميه بيني وبين نفسي أيضا الكاتب الذي يحاول أن يكون عبقريا. ولأن العبقرية ليست وليدة الاجتهاد، بل إن الاجتهاد للوصول إليها أمر يحسب على الشخص لا له، فقد بقي ميللر في خاطري كاتب تمثيليات إذاعية أتقن صناعة الدراما وعالج بها مواضيع تساير التقدم في العالم، فرفعه السابحون في التيار إلى مصاف العباقرة الكبار. ولم أكن أعتقد أن رأيي هو الصواب، ولكني أيضا لم أتوقع أن يتأكد ظني فيه بالذات في تلك المناسبة وعلى هذه الصورة.

ففي مجلة «النيوزويك» كان موضوعها الرئيس هو انتحار ميشيما ومغزاه ودلالاته، ولتغطية الحدث تولت المجلة أخذ رأي بعض الشخصيات الأمريكية الهامة فيه. وكان ميللر على رأس القائمة، وكان ما قاله أسخف ما قيل. فبعد أن اعترف بميشيما ككاتب رواية وجرحه بشدة ككاتب مسرح، قال ما معناه إن ما فعله ميشيما ليس سوى فاصل استعراضي أنهى به حياته لأنه تأكد أنه لم يعد لديه ككاتب ما يقوله. ميشيما بالمناسبة مات في الخامسة والأربعين، ولا أعتقد ولا يمكن أن يعتقد أحد أن كاتبا خصبا مثله ينتهي في سن كهذه أو يدفعه تأكده أنه انتهى ككاتب لينهي حياته كإنسان.

وأيضا ليست هذه هي القضية، لقد بدا لي رأي ميللر بعد جولة آسيا واستقراري في اليابان وبداية تعرفي على عناصر اللغز الآسيوي، أن تعليقه حتى بفرض أنه كاتب تقدمي، لا يختلف عن معظم التصرفات الأمريكية الرعناء تجاه آسيا، وأن الإنسان الآسيوي سيظل لغزا عويص الفهم، بل وربما مستحيل الفهم، حتى على أولئك الذين من جملة عقيدتهم وعملهم فهم الآخرين وتقدير وجهات نظرهم.

ولست أعرف كيف كان بإمكاني أن أجسد ما أريد قوله لو لم تجئ قضية ميشيما في وقت الزيارة وتزودني بكثير من الحقائق والشواهد لم أكن أحلم به.

ولكن - قبل الفهم وقبل أي شئ آخر - كان الحادث قد مس قلبي بعنف، ولو تأمله كل منا قليلا لما استطاع أن يفلت من زمام تفسيره، ولم لا أقول إني ترجمت الحادث غلى واقعنا فورا وتصورت أكبر كاتب لدينا.. وقد رتب لعملية إجهازه على نفسه وكأنما يرتب لعمل فني، وبنفس الإحكام ؟ كان عليه أن يكمل الجزء الأخير من رباعيته الروائية التي تتناول حياة اليابان خلال الستين عاما الأخيرة.. كان ثمة فصلان ناقصان لإنهاء الجزء الرابع والأخير. وبأي ذهن وأعصاب ووجدان كان يقضي ميشيما معظم ليالي الأسبوع الأخير من حياته ساهرا، لكي ينتهي من العمل تماما قبل حلول اليوم الذي كان قد حدده من قبل لتنتهي حياته فيه، وحتى والموت الإرادي قادم متصور أنه لابد أن تطير له العقول شعاعا، لم يطر له عقله.

وبإتقان شديد أكمل الفصول، وفي صبيحة يوم انتحاره أسلمه للناشر مكتوبا على الآلة الكاتبة ومصحح الأخطاء، وهو أبدا ليس رجلا من فولاذ، إنه فنان مرهف الحس تماما لديه مخزون هائل من الإحساس. وهؤلاء المرهفون المزودون بالإحساس الأعظم لم يكونوا يوما ما إلا رجال الإرادة التي لا تتزحزح، ولا رجال الأفعال التي لا يقدم عليها إلا أرباب الإرادات. وكان الناس في هذا نوعين. رجال الكلمة ورجال الفعل. رجال الكلمة يتقنونها وينبغون فيها لأنهم بتكوينهم غير قادرين على الفعل الكبير، ورجال الفعال الكبيرة يقومون بها لأنهم عاجزون عن خلق الكلمة الكبيرة التي تحل محل الفعل أو تقوم مكانه. الكتاب إذن ما كانوا أبدا أرباب السيف فبطولتهم ليست في ضربة يطيحون فيها برأس خصم، بطولتهم الحقة في كلمة تنتطلق منهم مرة يكون لها قوة ألف ضربة، وتظل تضرب وتطيح برؤوس من وما هو أقوى من الخصم والشخص ما ظلت عائشة وحية، وبمقدار صدقها والبطولة في قولها تظل وتحيا.

إنه إذن ليس طبعه الذي أخذ به نفسه، وليست طبيعته، إنما هو الإحساس بالواجب المقدس ذلك الذي أملى عليه فعلا هذه المرة بدل الكلمات، وهو الإحساس نفسه الذي دفعه أن يقهر كل كوامن الضعف في ذاته المرهفة الحساسة ويحيل ما فيها من تحمل إلى كتل صخر، ويعود من الشرفة بعد فشله الذي كان يتوقعه في مهمته ليرتدي الكيمون، ويعقد اربطته وأزراره بمنتهى ضبط النفس والإتقان.. فلقد فحصت الصور جيدا وأدركت أن صاحبها أبدا لم يفلت منه زمام السيطرة على أعصابه إلى آخر لحظة.

يجلس وحوله أركان حربه، ويجىء المصورون يلتقطون له ولرفاقه الصور التذكارية، ثم يمسك بسيف «الساموراي» العتيد الذي كان يحتفظ به رغم مخالفة هذا للقانون، ويرفع السيف ثم بسرعة يغمده في أعلى بطنه إلى المنتصف وهنا فقط يطلق صرخة قال عنها قائد قوات الدفاع المدني الذي كانوا قد أسروه، قال: كانت صرخة ألم بشعة، لم أسمع مثلها في حياتي.

انتهى مشهد الهيراكيري كما ابتدعه وزاوله فرسان «الساموراي» في اليابان القديمة. كل ما في الأمر أن الرأس الذي سقط هذه المرة لم يكن رأس قائد فشل في حرب، أو ضابط أهمل واجبه، ولكنه كان رأس أعظم موهبة أدبية يابانية في تاريخها الحديث، رأس منذ ساعات كان يكمل بحماس زائد وبخيال ملتهب أهم عمل أدبي كتبه ميشيما أو غيره عن أهم فترة في تاريخ اليابان.