أفرزت أحداث عديدة سابقة حقيقة حتمية، مفادها أن سلطة القانون تسبق بكثير جانب تشكل الوعي، فنجد أن الكثير من الموضوعات التي تمت المراهنة من خلالها على جانب الوعي وصناعته لم تتمكن من تحقيق نتائج مقنعة.

نعم استطاع بعضها تحقيق نتائج محدودة لا تتماشى مع الطموح، تماما خلاف القانون الذي بدوره يصنع متغيرات ونتائج سريعة المفعول، بل نذهب لما هو أبعد، قوة القانون على المدى الزمني المتوسط كفيلة بصناعة الوعي!

من البديهيات أنه مع ارتفاع الوعي سيتلاشى بعض من القوانين، ولذلك العديد من النماذج برهان على أن القانون هو ما يسبق الوعي وليس العكس. على سبيل المثال، نجد حملات التوعية بأضرار التدخين خاطبت عقول الناس لعقود طويلة ، ولم نجد لتلك الحملات صدى ، بل تزايدت أعداد المدخنين. بينما حينما حضر القانون بحصر أماكن المدخنين وتغريم المدخن في بعض الأماكن العامة، شاهدنا تحولا في سلوكياتهم. القيادة المتهورة والسرعة، فقد انخفضت الحوادث بعد تطبيق نظام ساهر كما تزايد المتقيدون بحزام الأمان وبالسرعة المحددة والمسارات، خوفا من العقوبات، كذلك شاهدنا انخفاضا في أعداد العمالة غير النظامية، ويرجع ذلك لقوة الإجراءات والعقوبات للمتجاوزين، رغم أننا لعقود طويلة كنا نسمع عن الإقامة غير النظامية دون أن يقابلها أي رد فعل في السلوك. المعادلة لم تقتصر على الأفراد بل شملت الكيانات، فمن النماذج البارزة في قدرة القانون على تغير السلوكيات بما يفوق الجانب التوعوي، ما يحدث رياضيا حيث لم يسبق أن شهدت منافساتنا الكروية مرور 9 جولات على انطلاق الدوري دون إقالة مدرب في حادثة هي الأولى من نوعها، وذلك لا يعود لوعي الأندية بأهمية الاستقرار الفني، وإنما لقوة القوانين حاليا من قبل وزارة الرياضة في جانب فسخ العقود والشروط الجزائية. وتمتد «معادلة القانون يسبق الوعي» إلى مجالات عديدة، في توطين الوظائف، شاهدنا حملات سابقة لحث القطاع الخاص على السعودة، غير أن تلك الكيانات الاقتصادية لم تبادر على ذلك إلا بعد قانون ملزم لها.الحديث عن سلسلة قرارات فاقت في تأثيرها جوانب الوعي، يقودنا لما يحدث في شبكات التواصل الاجتماعي، فقد شهدت بداياتها تجاوزات من قذف وشتم واتهامات دون أدلة، ولم تفلح حينها مساعي الوعي بتنقية ذلك الفضاء، إلى أن ظهر نظام الجرائم المعلوماتية الذي جعل مستخدمي تلك الشبكات هم الرقباء على ذواتهم.جميعنا يتذكر كيف شهدت الفترات الماضية مقاطع لمرضى أو مراجعين يتطاولون على العاملين في الكادر الصحي دون أن يكون هناك رادع قوي لهم، في حين نستطيع القول إن هذه الظاهرة شبه تلاشت بفضل العقوبات الصادرة من وزارة الصحة . اختم بالسؤال الفلسفي حول ما الذي يسبق الآخر الوعي أو المادة، حيث يقصد بالمادة هنا «الموجود المادي» بكل أبعاده ولها تفسيرات عديدة، إلا أن جميعها تسير باتجاه أن تكوين الوعي والإدراك لا يمكن أن يتحققا إلا في بيئة مادية، لذا فوجود المادة شرط أساسي لتحقق الوعي. وهذا ما يجعلنا نعود للمربع الأول في حديثنا بأن قوة القانون ليست قاصرة على الالتزام بالأنظمة فحسب، بل قادرة على تشكيل وصناعة وعي. ولكن هذه الحقيقة لا تجعلنا ننساق خلف فكرة عدم أهمية وجود جانب توعوي، غير أن التوعية كي تتحقق وتأتي ثمارها لا بد وأن تكون ممزوجة بقوانين قوية تدعمها وتسرع في جانب تشكل وصناعة الوعي.

يقول الكاتب والأديب بوبليليوس سيروس «يكون الشعب قويا عندما تكون للقوانين قوة».