مع إقرار ميزانية الخير المعتمدة بتفاصيلها المعلنة، استحوذ التعليم على القدر الأكبر من القيمة المعتمدة لمسارات الإنفاق التقديرية لميزانية 2021، والتي قدرت بـ186مليار ريال، من 990 مليارا مقدرة للإنفاق على القطاعات كافة، وفي ذلك استشعار لأهمية التعليم التنموية، وتقدير لحجم مسؤولياته المتشعبة، وإدراك واع بكونه القاعدة المتينة، التي ترتكز عليها القطاعات التنموية الأخرى، فمنه تتكون البنية التحتية للموارد البشرية في جميع المجالات، وعليه تعتمد جودة الأداء للقيادات الإدارية، سواء ما يتعلق منها بوضع الإستراتيجيات والسياسات المناسبة، أو ما يتصل بكفاءة إدارة تنظيم شؤون العاملين وتقييم عطائهم، ومتابعة تحقيقهم للأهداف الموضوعة.

التعليم يمثل القطاع الأكبر بين القطاعات التنموية الأساسية، لضخامة مسؤولياته وكبر حجم مؤسساته، وتعدد مجالاتها بمستوياتها المختلفة، علاوة على تضخم عدد الكوادر البشرية التي تتبعه، سواء في حقل التدريس والشؤون الإدارية والقيادات، أو طلاب مدارس وجامعات وكليات ومعاهد التدريب، وما يتبعه من المؤسسات التي تُحسب أعمالها على التعليم، كهيئة تقويم التعليم والتدريب المعنية بمتابعة جودة التعليم والتدريب بتقويمه لتطوير أدائه.

ارتفاع حجم الإنفاق على التعليم، يُعد من المؤشرات الصحية المعتمدة كمعايير تمَيُزْ في موازين التنمية البشرية، فكلما ارتقت الدول بتطلعاتها التنموية، ترتقي بأهدافها وسياساتها الوطنية، التي تستهدف تنمية الإنسان بجميع مقدراته المعرفية والمهارية، لترتفع قيمة مشاركته، ويزيد مستوى فاعليته في التنمية الوطنية بمساراتها المختلفة.

ارتفاع نصيب التعليم من حصة الإنفاق الوطني، يعني رؤية واعية واستراتيجية شاملة، تستهدف بناء جيل من أبنائنا المؤهلين، القادرين على تحمل مسؤولياتهم الوطنية، والمتميزين في مشاركاتهم الدولية، سواء على مستوى الطلاب والطالبات، أو على مستوى الباحثين والمبتكرين والمبدعين في العلوم المختلفة.

الإنفاق في التعليم له قنواته الكثيرة، منها الثابت المعروف، ومنها المستحدث الذي يتولد مع التطلعات المتجددة، والسياسات الساعية نحو تطوير جميع مكونات المنظومة التعليمية، بما تتضمنه من محتوى مادي وبشري، وعليه فقد تستنزف بعض القنوات من الجهود والأموال أكثر مما تستحق، لمحدودية مردودها وانحسار فائدتها، بينما يحتاج غيرها إلى سخاء في وجوه الإنفاق وفي الجهود المدروسة، أكثر مما يرصد له، بمعنى أن الإنفاق على التعليم يحتاج لترشيد مصروفاته نحو الأفضل والأكثر تطلباً.

تطوير التعليم والارتقاء بأدائه وتحسين مستوى مخرجاته، يتطلب الاهتمام بتطوير مكونات المنظومة التعليمية، وتحديث مجمل محتواها الفني والمادي والبشري والإداري والمؤسسي، وبما يشمل كذلك، النظام المتبع في إدارة التعليم للمناطق وللمدارس، وتفاصيل النظام التعليمي العملي المنفذ، علاوة على تطوير السياسات التعليمية، بما يمكنها من استيعاب أطراف العملية التعليمية، إذ إن تطوير إحداها أو بعضها لا يحقق النتائج المرجوة، لأن العطاء المتميز يكون من منظومة متكاملة، تشترك جميعها في تحقيق الأهداف المأمولة، وبها يمكن حصد النتائج المرجوة.

الاستفادة من الدول المتقدمة في نظامها التعليمي، والتي أثبتت تجربتها، التميز والإبداع في مخرجاتها، يُعد من الأولويات التي لا بد وأن يُستند عليها، وتُعتمد مبادئها في تطوير التعليم، ولا يمنع ذلك من الأخذ في الاعتبار العوامل المؤثرة في العملية التعليمية ومخرجاتها، والتي تختلف من دولة لأخرى في بعض تفاصيلها، تبعاً للاختلافات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين الشعوب والدول، ولكن تظل هناك أُطر عامة مشتركة، تحكم تلك الاختلافات وتضبط المعايير المطلوبة، بما يخدم العملية التعليمية.

تقدم لنا التجارب الدولية في تطوير التعليم، نماذج عملية ناجحة، تمثلها دول صناعية متقدمة، وأخرى نامية، قفزت مراحل تنموية في سلم التنمية البشرية، بعد تطوير نظامها التعليمي، وتوجيه سياساتها الوطنية نحو خدمة التعليم، وتحسين جودة منجزاته، فأنفقت على التعليم بسخاء، وبذلت الجهود المدروسة وساهمت السياسات المتكاملة، التي تبنت فلسفة للتعليم عميقة وواضحة، استندت في تنفيذها على آليات وإجراءات متعددة، تحقق في مجملها استراتيجيات شاملة ورؤى وطنية تبلور تطلعاتها التنموية، في إطار متكامل من السياسات التي يشارك فيها مختلف القطاعات، وذلك بعد يقينها بأن متانة القاعدة التعليمية وجودتها، تعني قوة مؤسسات الدولة جميعها، وأن الارتقاء بالتعليم سيقطف ثماره جميع القطاعات الوطنية الأخرى، عندما تتحمل مخرجاته مسؤولية إدارة مرافق الدولة ومؤسساتها، سواء كقيادات إدارية أم كبنية تحتية لمواردها البشرية بمختلف مستوياتها الوظيفية.

الابتداع في التعليم والمبادرات فيه بتجارب تعليمية وسياسات غير مسبوقة، يُعدان من أوجه المغامرة التي لا تحمد عقباها، لأن التجارب المستحدثة في التعليم، تعني تجارب عشوائية في مستقبل وطن بجميع مقدراته، كما تعني احتمال تعثُر في التنمية الوطنية المستهدفة، فليس من العيب أو الانتقاص، الاستفادة من تجارب الآخرين المتميزين، الذين ثبتت نجاحاتهم، وإنما الخطأ الأكبر هو تجاهل التجارب التي سبقتنا في الميدان، لنبدأ من حيث بدأوا، وليس من حيث انتهوا، فلنكتسب الفرص الثمينة المتاحة، ولنستفد من الخبرات المتميزة، بما تحويه من منهجية مطبقة للتقدم المعرفي وآلية لتطوير التعليم، لنأخذ إيجابياتها ونتفادى سلبياتها.

التجربة الميدانية والممارسة العملية، هي المرحلة المتقدمة من الإنجاز المعرفي والترجمة الحقيقية لنتائج الأبحاث والدراسات، وبما تضمنته من توصيات علمية متخصصة، وبذلك يكون التحول التنموي المنشود، من دول تستقبل المعرفة وتستورد المنتجات المختلفة، إلى دول تنشر المعرفة وتصدر منتجاتها القائمة على استخدام المعرفة وبلورتها إلى منجزات حقيقية.