هل يمكننا أن نفصل الإنسان عن عمل له، إنتاج ما، بغض النظر عن نوعه سواء أكان علما أو فكرا أو فنًّا؟ هل يمكن أن نفصل العمل الفني عن تاريخ الفنان أو نوعية حياته؟ كيف نفسر الأعمال؟ كيف نستقبلها نحن دون أن يكون لدينا أي خلفية عن الفنان نفسه؟ مثلا كيف سوف تستقبل أنت عمل فنان وأنت تعرف أن معتقداته أو أن أفكاره تتعارض مع ما تؤمن به أو حتى أنه مجرم أو قاتل؟ ماذا لو عرفت من تاريخ حياته أنه كان خائنا لبلاده، وقد تسبب في الدمار والتشرد لأبناء وطنه؟ والآن.. هل يمكن فصل العمل الفني عن الفنان؟

فكر قبل أن تجيب، حقا هل ستؤثر فيك سيرة حياة أوسكار وايلد عندما تكون غارقا في متابعة إحدى مسرحياته؟ هل كان سيؤثر على إعجابك بأزياء فيرساتشي أسلوب حياته الذي أدى إلى مقتله؟ أو أفلام المخرج رومان بولنسكي أو لوحات الفنانة التشكيلية فرِدا... إلخ؟

نحن كمتلقين على الجانب الآخر من العمل الفني أو الفنان نفسه بعضنا يؤثر عليه، والبعض الآخر يأخذ العمل بمعزِل عن الفنان، ويحكم عليه من خلال انطباعاته، ويترجم ذلك حسب خلفيته الثقافية من معرفة وخبرة، بينما نجد أن بعضنا قد يرفض هذا الشخص وبالتالي يقاطع أعماله، بل إن البعض قد يذهب إلى التجمهر أمام معارض تقام لبعض الفنانين ليعلنوا من خلال ذلك رفضهم لما يمثله هذا الفنان أو ذاك من أفكار أو سلوكيات أو أفعال.

هل يوجد مثل هذه الحالات بالنسبة للفنان نفسه وعمله أو منتجه؟ هنا اسمحوا لي أن أقول إنه لا يوجد شيء اسمه فنان بدون أعمال فنية (أو أفكار لأعمال فنية)، والفنان هو في الأساس جزء من علاقة توحدية مع أعماله الفنية، على الأقل أثناء عملية الإنشاء أو الولادة (للفكرة)؛ إنها مسار أو حركة نحو الفصل والتمايز بين الفنان والعمل الفني الذي عادة ما يتوج (إن لم يمر بمعوقات) بإنتاج عمل فني مستقل يمكن أن يوجد بمفرده في العالم الخارجي لهذا الفنان.

ومن أجل إكمال الفكرة، واعتماداً على تقسيمات باتريشيا تاونسند في دراستها عن علاقة الفنان بعمله؛ لو أننا اعتبرنا أن العمل الفني يمر بمراحل تمكنّا أن ننظر إلى العملية الفنية من خلال ثلاث مراحل: «التكوين» و«التطور» و«الانفصال». تتضمن مرحلة «التكوين» التصور أو تكوين الفكرة لعمل جديد، بينما تشير مرحلة «التطوير» إلى مرحلة العملية الفنية التي يتعامل فيها الفنان مع وسيطه (الذي يختاره) ويخلق العمل، وتشير مرحلة «الفصل» إلى إطلاق العمل الفني في العالم الخارجي، عادةً في معرض أو دار نشر أو مسرح أو دار سينما، وعلى الرغم من أن هذه المراحل المعينة تتبع ترتيبًا زمنيًا تقريبًا، إلا أن التقدم خلال المراحل ليس بالضرورة خطيًا، فقد تنشأ المشاكل أو التحديات المفاهيمية والمادية في أي وقت، وقد يتطلب حلها عودة إلى مرحلة سابقة، أو القيام بحركات دائرية داخل مرحلة، بحيث قد يتبع التقدم مسارًا حلزونيًا بدلاً من المسار الخطيّ.

الآن في كل مرحلة من هذه المراحل تكون نفسية الفنان تعيش حالات من المشاعر المتضاربة، من مرحلة نشوء الفكرة إلى مرحلة الانفصال، تدور داخل وعيه حوارات ومشادات، بل تدور حروب أيضًا، عالم من النقاط المبعثرة يحاول أن يجد رابطا بينها، وهنا يكون في أضعف حالاته بالنسبة للتواصل مع الخارج، فقد يبدو غريب الأطوار متشنجا أو سارحا، المهم هنا أنه في الواقع ليس متواجدا كليا، وأدق فترة هي فترة التطوير حيث يعمل على البحث عن ذاته في العمل ليرى انعكاسا ما يساعده على أن يرى نفسه، هناك حركة بين الشعور بالوحدة مع العمل (الفنان كمشارك) والفصل (الفنان كمراقب)، والخطورة هنا أن منهم من لا يعود ويبقى سجينا للعمل، ومنهم من يعود وقد ترك جزءا هاما في نقطة ما داخل إطار العمل، ومنهم من يعود منهكا، ولكنه يعود كاملا! وعامل الزمن هنا له دور حيث إن بعضهم يستغرق أسابيع والبعض شهورا والبعض سنوات إلى أن ينتهي. ثم تأتي مرحلة الانفصال حبلى بمشاعر متضاربة كمشاعر الراحة أو الفخر أو القلق أو الخسارة، تماما مثل مرحلة انفصال الأم عن وليدها، فقطع الحبل السري مثلا مؤلم، ولكنه ضروري للحياة بالنسبة للوليد، ولكنه بالنسبة لبعض الفنانين قد يكون مرعبا، وكأنه بهذا الانفصال سوف يفقد ذاته.. هويته!

يقودنا كلُّ ما ذكر إلى نقطة أثارت حيرة الكثير من المراقبين أو النقاد، لماذا يأخذ بعض الفنانين فترة قصيرة للانتهاء من العمل بينما البعض الآخر يأخذ فترات طويلة، وقد ينتهي من العمل وقد لا ينتهي منه، بل إن هنالك من يبدأ بمشروع فني، ثم ينتقل إلى آخر تاركا سلسلة من الأعمال غير المنفذة أو المنتهية!

ربما تكون تلك العلاقة مع العمل عميقة إلى درجة أن الفنان خلال فترة التطوير قد تعلق بها وغرق في داخلها، ويعتبر أن فكرة انفصاله عنها تأتي عند الانتهاء، فيعرض عن هذا لتبقى عنده ولا تنتقل إلى غيره، حتى وإن كان قد أدى ذلك إلى خسارة بالنسبة له! وربما كان المحيط الذي يعيش في داخله الفنان غير مشجع أو غير داعم، أو ما يحتاجه من أدوات للتنفيذ غير متوفر بالكمية أو النوعية التي يرى أنها ضرورية لإكمال العمل... وربما كانت لديه حالة نفسية طاغية بحيث تمنعه من إكمال العملِ، أيِّ عملٍ.

قبل أن أترككم أريد أن أعرض عليكم بعض الأمثلة للعلاقات بين الفنان وعمله، مثلما جاء في إحدى الأساطير الإغريقية القديمة عن علاقة بيجماليون النحات بتمثاله، فقد أراد لفكرة أن تكون حياة تعكس ما بداخله من رؤية لماهية المرأة المثالية، فوقع في حبها وتمنى أن تدب الحياة فيها، وعندما حدث ذلك رفضته، فقضى عليها في نهاية القصة! بالطريقة نفسها عرض برنارد شو مسرحيته ولكن البروفيسور هيجنز في المسرحية (والتي كان عنوانها بيجماليون أيضا) لم يقع في حب أليزا التي أخذها من الأسفل ورفعها إلى الأعلى، بل ارتبط وجدانيا بما صنعه في أليزا، أي بسلوكيات ومظاهر وليس الجوهر، كان متكبرا حتى النهاية وخسر أليزا أيضا. الصورة التي أريد أن أوصلها هنا أن التوحد مع المنتج قد تكون له نتائج كارثية أحيانا، وهذا ما نراه في رواية لإدجار آلان بو «سقوط منزل آشر»، من أنّ أعمال صاحب المنزل وبطل الرواية؛ السيد رودريك الفنية من موسيقى وشعر ورسم، كانت مجرد انعكاسات لما كان في داخله من تشتت وشيء من الجنون، ربما ظهرت أعماله كتنبؤات تحققت من خلال ما كانت تحمله من طاقات سلبية، ليست هي من قضت عليه، ولكنها ساهمت في سقوطه!

كلُّ ما عُرِض مجرّدُ أفكار أطرحها هنا في إطار موضوع ثقافي، ليست كتفسير أحادي بمعنى «مقاس واحد يناسب الجميع»، ولكن بدلاً من ذلك أقدمه كنقطة انطلاق للبحث عن المزيد من الآراء والتفسيرات؛ علمية كانت أم نابعة من خبرات شخصية.