لم يكن متصورا أن يكون مصير رئاسة دونالد ترمب مختلفا عما رسمه هو بنفسه. استهلك نصف العام الأخير من ولايته في هندسة تحالفات قد تمكنه من البقاء في البيت الأبيض، والنصف الآخر في صوغ سيناريوهات لما بعد الفشل المحتمل في الانتخابات حتى لو أدت إلى زعزعة أسس النظام الأمريكي. ومنذ بدأ التصويت المبكر راح يحذر من التزوير، ومن «سرقة الانتخابات»، لكن الواقع عاكسه. أخفق في المناظرات وقبلها في إدارة أزمة الوباء وفي التعامل مع احتجاجات السود. انتزع شرائح من أصوات اليهود واللاتينيين، موقناً بأن الانقسام المجتمعي يعمل لمصلحته، غير أن الولايات الجمهورية تقليديا خذلته. بقي أمامه إظهار الأريحية تجاه الخصم وتسهيل الانتقال المنظم للسلطة، لكنه استبقه بـ «ممانعة» شعبوية صماء، الى أن استدعى «إرهابيين محليين»، كما وصفهم جو بايدن، لإنقاذ مستقبله السياسي. ظن أنه أقوى من المؤسسات، وفوق الدستور والقوانين، فانتهى مؤهلا للعزل لا لعودة لاحقة إلى السباق الرئاسي.

استطاعت «الترمبية» أن تحدث انقلابات كثيرة، خارجية على الأخص، لكن من دون نتائج فعلية محسومة. أربكته روسيا وأربكها ولم يمكنه الكونجرس من الاستثمار في مهادنتها. تحدته الصين ولم يتمكن من ترويضها فراكم «الضرائب» على تجارتها وحول المواجهة معها الى شبه حرب تنتظر من يشعلها. تفرق من حوله الأوروبيون وأهان كبرى دولهم وأشعرهم للمرّة الأولى منذ سبعة عقود بأن أمريكا غير معنية بأمنهم. انطبع إرثه الخارجي بـ«الدعم الأقصى» لإسرائيل مقابل «الضغوط القصوى» على إيران، ما أنتج «أقصى الظلم» للفلسطينيين والسوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين وأفظع الاستهانة بمصائرهم.

لكن الانقلاب «الترمبي» الأكبر ظل من حصة أمريكا نفسها، عابثا بقواعد ديمقراطيتها، بحرمة كونجرسها، وبأمنها واستقرارها. هبط على حزبه الجمهوري دخيلا طارئا فتلاعب برجالاته وبعثر قيمه وتاريخه حتى لم يعد لهذا الحزب سوى هم واحد: أن يمحو هذه الصفحة من سجله، كما علقت مواقع التواصل حساباته. صحيح أن ثلاثة من الرؤساء الأربعة السابقين الذين تغيبوا عن تنصيب من خلفهم كانوا جمهوريين، لكن الظروف لم تكن مشابهة إلى حد يجعل بايدن يقول إن عدم حضور ترمب «أمر جيّد». لم يسبق أن بلغ التدهور حد الشك في أهلية الرئيس لامتلاك رموز استخدام السلاح النووي، كما أشارت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب. ولم يحدث أن يناشد السيناتور ليندسي جراهام، الحليف القريب لترمب، أعضاء الإدارة البقاء في مناصبهم فقط لكي يثنوا الرئيس عن أي تورط خارجي أو داخلي.

في لحظة واحدة عاد إلى الأذهان كل ما قيل عن ترمب وإعجابه بالمستبدين وسهولة قراراتهم واستهزائهم بالقيم والمؤسسات، وعن الألفة الضمنية مع الرئيس الروسي وتقاربه الممسرح مع زعيم كوريا الشمالية وسعيه المحموم إلى صفقة مع نظام الملالي وتواطؤه الحميم مع الرئيس التركي وهداياه الوفيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي... هؤلاء جميعاً ومعهم قادة «جمهوريات الموز» سيفتقدون ترمب الذي كيّف أمريكا لتمكينهم من متابعة مآربهم، وطوع قيمها فأتاح لهم بعد سقوطه لعن ديمقراطيتها والشماتة بها ونعيها، على رغم من النموذج البراق الذي مثلته أمريكيا وعالميا.

غداة المشهد الأمريكي المذهل كان هناك ما يشبه الاحتفال في موسكو لأن «التغني بالديمقراطية انتهى» إذ باتت نسختها الأمريكية «عرجاء بالكامل» (رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان)، ولأن «النظام الانتخابي الأمريكي بالٍ» ولا يتماشى مع المعايير الديمقراطية «الحديثة» (الناطقة باسم الخارجية الروسية)، وبالتالي لم يعد ممكنا لأمريكا إعطاء دروس أو الادعاء بأنها «منارة الديمقراطية» في العالم. موسكو وبكين وطهران وعواصم أخرى معذورة، فهي لم تقل يوماً إن لديها ديمقراطية أو أنها تطمح إليها، لكنها تنتهز المناسبة الآن لتشيد بأنظمتها وتجهر باحتقارها الحريات وحقوق الإنسان.

لا يزال مشهد قصف «البيت الأبيض» (مبنى البرلمان الروسي) ماثلاً في الأذهان منذ العام 1993، ولم ينس أحد التعديلات الدستورية المتتالية (آخرها في يوليو 2020) لإتاحة الرئاسة لفلاديمير بوتين حتى 2036. الناطقة باسم الخارجية الصينية رأت في شغب الكابيتول «مشهداً مألوفاً... كما في هونج كونج»، مع أن المقارنة لا تصح بين قمع منظم للمحتجين وشغب طارئ أفلت لفترة قصيرة من السيطرة. أما الرئيس الإيراني فاستخلص أن الديمقراطية الغربية «هشة وضعيفة»، ربما لأن عدد الضحايا في واشنطن كان خمسا فقط، في حين أنه تعدى الـ1500 في احتجاجات 2019 في إيران.

قد يكون بعض مآخذ الشامتين صحيحاً، فالأمريكيون استشعروا قبل سواهم خطرا على ديمقراطيتهم من داخلها، لكن سخرية الخصوم من الديمقراطية، لمجرد أنهم لا يعرفونها، يطرح تساؤلات عن البدائل التي قدمها هؤلاء وهل كانت نماذج جيدة لشعوبهم وللعالم. تستطيع أمريكا تصحيح أوضاعها بتطوير آليات نظامها لأن أي خيار آخر مخيف ولا مصلحة لأحد غير «الترمبيين» في أن ينهار «السيستم». أما الآخرون فالأولى أن يتفكروا في أوضاعهم وكيف أنهم كلما صححوا عادوا غريزيا إلى «شرعنة» التسلط، على رغم من أن شعوبهم تتوق كسائر الشعوب إلى الحرية والمساواة والمشاركة والحقوق الإنسانية والعدالة، وهذه قد تكون صُورت على أنها «قيم أمريكية»، أو غربية، لكنها في حقيقتها إنسانية أولا وآخرا.

الحدث الأمريكي أزمة عالمية وليست أمريكية فحسب، فحتى إشعار آخر لن يكون نظام دولي من دون أمريكا. فضّل خصومها من دعاة التعددية القطبية أن ينسوا، وسط انتشائهم بالشغب، أن الكونجرس لم يؤخّر اعتماد نتيجة التصويت. لا شك أن مشاعر الخيبة والعار عمّت الولايات المتحدة، لكنها ترافقت بإصرار على محاسبة ترمب، لئلا يكرر أي رئيس ما فعله، خصوصا إذا كان رجل أعمال. لكن هل أن الديمقراطية الأمريكية - الغربية في أزمة؟ نعم بالتأكيد، فهناك من جهة السياسات الداخلية التي انكشفت عنصريتها وتهميشها للأقليات وإفرازها للتطرفات، ومن جهة أخرى السياسات الخارجية القائمة على النزاعات الإقليمية والحروب بالوكالة. لم يخطئ وزير الخارجية الألماني بدعوته إلى «خطة مارشال» مشتركة لإنقاذ الديمقراطية.

ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»