رغم سرعة مرور هذه الأيام.. أصبح يستوقفني نوع من أنواع التفكير الذي لم أبدي له انتباها في السابق... أو ربما لم يكن يتواجد بكثرة كما في هذه الأيام المختلفة بعبورها.. نعم كل شيء فيها تقريبًا جديد.. ومع هذا التجديد وجدت أن كثيرًا من الناس أصبحت حين تتحدث.. وبصوت مرتفع وبثقة.. تقرن كلمة الطيب (بالمسكين) ألا وكأنه أمر طبيعي.. فيجول في عقلي أكبر استفهام واستعجاب! فهل الطيبة أصبحت تعني الضعف بيننا؟.

قرأت قبل فترة قصة عن أشرف البشر وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان في غزوة أحد، وقام أحد الأعداء بحفر حفرة ككمين ليقع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلا حدث ذلك، فارتطم وجهه الشريف في الحجر فسال الدم من وجهه وتألم ظهره، وحاول عليه الصلاة والسلام الخروج من الحفرة فضربه أحد الأعداء، فأصبح الصحابة يبكون وقاموا بالمسارعة لمساعدته، فخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يدعو الرسول عليه الصلاة والسلام على أمته فيهلكون، فاكتفى رسولنا القوي بالدعاء لهم لا عليهم وقال (اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون).

إن كان هذا الفعل يمثِّل شيء غير القوة والترفُّع والرقي في عقولنا، فيجب علينا إعادة تأهيلها كليًا، لأن ربط الإحسان بالضعف يمثل تفكيرًا غير حضاري، ولا يواكب سنة الحياة أو مفهومها الحقيقي، فما نوع هذا البشر الذي يقرن الطيبة بالوهن ألا ولتكاد تكون عارًا للذي يحملها في زمننا؟ هل أصبح الطيب إنسان نشعر بالأسى له؟ والأدهى من ذلك أن البعض أصبح يظن أن الطيب بلا حقوق ولا حدود، لأنه أكبر من أن يرد الأذية، وأذكى من أن يستنزف طاقاته بها ظنوا أنه فريسة سهلة، فلم يدركوا قدرته وقوته وأن إساءتهم ستلحق بهم بطريقة أو بأخرى دون أدنى جهدٍ منه، ولم يدركوا كرمه العظيم الذي يجعله يعلم بأغلاطهم ويكتفي بالإدبار عنهم بلا أذى.

ما أسهل رد الشر بالشر، ما أسهل الأذية، ما أسهل رد الكلمة السيئة بأكبر منها، وما أصعب التنازل المعتدل، وكتم الغيظ، والإحسان مهما كانت الظروف.

يجب أن ندرك أنَّ من يُحسِن عند المقابلة بالسوء له شخصية رزينة فائقة الصبر، ولن يقدر على الصبر إلا الشخص القوي، ولن يستوعب ذلك الجميع، فالإحسان فيه ترفُّع ورقي لن يفهمه إلا شخص على نفس المستوى من الأخلاق والوعي والعلم.

مقارنة الطيب بالمسكين هي تصغير من قيمة الطيبة، ونشر الكره حولها، وبداية لثقافة تفكير خاسرة، ولن تجلب الخير لأي شخص على المدى البعيد.

المسكين هو المؤذي فسرعان ما ستلحق به أذيته.. المسكين هو الذي يستنزف طاقاته بالمصارعات والمشاكل فلا يبقى منها الكافي للعيش بهدوء وسلام.. المسكين هو من يستكثر الإحسان فلن يصله حصاده.. المسكين هو من يستعرض بالإساءة للآخرين فأين سيهرب من قدره؟!.

أما الطيب، المترفِّع، الراقي بأخلاقه، فهو القوي، القادر، هو الذي اختار الطريق الأصعب، ليرضى عنه رب العالمين أولا ثم ليرضي ضميره، فهنيئا لذلك الطيب.