سيغادر ترمب البيت الأبيض من الباب الكبير، وهو يحمل في طيات تلك التجربة العديد من الأحداث والمواقف الخالدة في ذاكرة العالم في المجالات كافة. ترمب لم يكن رئيسا عاديا أوتقليديا، بل كسر الأعراف والتقاليد السياسية والدبلوماسية كافة في شتى المجالات، ومن تلك المجالات التي مثل خلالها حالة استثنائية وخارجة عن المألوف «المجال الإعلامي»، أو دعونا نقل في مجال الاتصال والتواصل بشكل أعم وأشمل. يمكن القول بأنه أسس لذاته منهجا اتصاليا مختلفا جذريا عما كان عليه أسلافه أو بقية الساسة.

كان ترمب في معظم رسائله الاتصالية يعمد إلى الوصول للجمهور دون حاجة إلى وسيط، فكثير من قراراته وانطباعاته كانت تصدر عبر حسابه الشخصي، في شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر»، دون الحاجة إلى دعوة وسائل الإعلام التي عاداها طوال فترة رئاسته أشد المعاداة، أو حتى الحاجة إلى استخدام قادة رأي لتوصيل رسالة، عبر ما يعرف بـ «التسويق السياسي» المتبع في الأعراف السياسية.

المتتبع لأطروحات ترمب عبر تويتر يدرك أن تغريداته لا تدخل حيز «الفلترة»، أو تمرر على فريق إعلامي خاص، بل كان من الواضح جدا أنها انطباعات آنية، حتى دون استشارة أحد. ومما يؤكد تلك الفرضية أن المسؤولين الإعلاميين في البيت الأبيض في أكثر من مناسبة، كانوا آخر من يعلم عن تلك المعلومات المقدمة، بالإضافة إلى أن كثيرا من تلك الأحاديث لم ينفذ، مما أوقعه في حرج أمام أنصاره وتعجب أعدائه.

لم تتوقف غرائب ترمب الاتصالية عند تلك النقطة فحسب، بل امتد به الأمر إلى التصادم مع تلك الشبكات والشركات المالكة لها، حيث وصل بهم الحال إلى حجب بعض تغريداته لانتهاكها قوانين الشبكات، قابلها تهديد واضح وعلني بأنه سيطبق على تلك الشبكات إجراءات تحجم أدوارها. وبلغ التصادم مبلغه حين اتهمها ترمب بأنها تدعم المرشح بايدن، في حالة فريدة بأن يتهم سياسي تلك الشبكات بلعبها دورا في العملية السياسية، وأنها تحمل أجندة، قبل أن يبلغ الصراع أشده، حين أوقفت إدارة تويتر حساب ترمب في حادثة هي الأولى من نوعها لشخصية سياسية.

وبالنظر لأحاديث ترمب عبر وسائل الإعلام التقليدية، التي لا تخلو من تصادمات مع بعض المراسلين، نجد أن مضامين حديثه كانت تحمل الكثير من الرسائل المباشرة الصادمة، والتي لا تصدر من سياسي، وهذا جعل أحاديثه مادة إعلامية مرتقبة، بعيدا عن كونه رئيسا للولايات المتحدة، بل لأن تصاريحه نارية وتضرب بكل اتجاه، وهي مؤهلة مباشرة لأن تكون «مانشيتات» قابلة للبيع.

وبعيدا عن وسائل الإعلام، نجد أن ترمب أيضا مختلف في نموذجه الاتصالي مع العامة من خلال الأنماط الاتصالية. حيث نجده في أكثر من مرة كان يمثل دور المتلقي القائم برد الفعل، واعتدنا أن تقوم بذلك مؤسسات الدولة في إطار تعليقها على أي حدث. وقد يأخذ ترمب بعدا اتصاليا آخر، متمثلا في كوننا اعتدنا أن يكون القائم بالاتصال لديه قدرات اتصالية، وذا خصائص معينة، غير أن ترمب كسر تلك الحواجز ونجح بإيصال رسائله دون امتلاكه أدنى مقومات الاتصال، ممثلا بذلك زاوية اتصالية جديدة مختلفة، تمثلت في تسطيح الرسائل، فمن كان ينتقد مشاهير الشبكات في تسطيح محتواهم، ها هو يشاهد الآن الرئيس الأمريكي يقدم رسائل اتصالية سطحية، عبر حسابه في تويتر دون وجود قوالب اتصالية سياسية ممنهجة يسير عليها. هذه الحالة الترمبية الشعوبية في الطرح الإعلامي، هل هي مرحلة مؤقتة، أم أنها النهج الجديد في عالم الإعلام بمستخدميه وفئاته ووسائله كافة ؟ أخشى أنني أميل للفكرة الأخيرة!