فلنحاول أن ننحت مصطلحاً للكتابة الحقيقية، الكتابة التي تتجاوز المجال التداولي لما يسمى (العرضحالجية) المنتشرين في مجالات تمتد من ملخصات دعاوى المحاكم، إلى ملخصات طلبة الجامعات، ومن مطبوعات العلاقات العامة إلى مطبوعات العلاقات الخاصة، يسمونها أحيانا كتب تاريخ!! وأحيانا رسائل ماجستير ودكتوراه في مختلف التخصصات، يختصم فيها الأكاديميون على الحصص المالية في الإشراف والمناقشة، أكثر من خصومتهم على ما ستضيفه الدراسات والبحوث للمكتبة العربية من علم وفكر وتنوير.

الكتابة الحقيقية التي يحاولها كل كاتب عندما يجلس مستمعا لمعزوفةٍ فيعتصر ألما، لأنه عاجز أن يكتب بنفس روعة ما يسمعه من موسيقى ولحن عبقري، الكتابة الحقيقية عميقة كالشعر الحقيقي، فلنسمي هذه الكتابة (الميتا كتابة/‏‏ ما وراء الكتابة) ونقصد بها، الكتابة التي لا يستطيع التلذذ بها سوى من يملك ذائقة لغوية وملاءة ثقافية ترتفع لمستوى هذه (الميتاكتابة) فيرى ما وراء الكتابة من عبقرية الفكرة والمعنى.

القادرون على (الميتاكتابة) هم عباقرة سواءً أكانوا كتاباً أو قرَّاء، إنهم يخرجون من مدى الوقت إلى مدى الزمن، يخرجون من مصارعة الجهل في الأشخاص، إلى نزال أبدي مع الجهل العادي الذي يظهر على شكل خرافة، أو جهل مركب يظهر على شكل وعي مزيف يرطن بآخر مصطلحات العلم والفلسفة، ومن الغبن أحياناً كثيرة أن تخذلك اللغة في صعودها للمعنى، فتدرك كم أن الوجع يعتصرك إذ ترى أن مدونات الثقافة العالمية جعلت (المكتبات، المسارح، المتاحف، دور السينما، الملاعب الرياضية) من (حقوق الإنسان الثقافية)، وترى بعض أهلك يراها مجرد (ترفيه فارغ) فكيف إذا سيصل مكتوبك إليهم.

(الميتاكتابة) يستحيل أن تكون كتابة تقليدية، بل هي كتابة ثائرة بكل ما في الثورة من معنى، لكنها ثورة على الأفكار التي تجاوزها التاريخ، ويريد البعض اجترارها تحت عناوين (الأصالة)، ثورة على الفكرة العنصرية التي تعيد إنتاج العبودية واحتقار الإنسان لأخيه الإنسان، فالعنصرية رق، والعنصري عبد التزمت، باسم الدين حيناً وباسم العلم حيناً أخرى ومثالهما داعش والنازية، والعلم بلا ثورة على (اللاعلم من خرافات وأساطير) ليس سوى وظيفة لطالب أمضى سبع سنوات في الكلية ليصبح طبيبا ثم يوصي مرضاه بالإضافة إلى البندول بمزيج قطرات من زيت الزيتون والحبة السوداء، وفي جواله رقم شيخ للرقية وآخر للحجامة.

(الميتاكتابة) عاشها الجاحظ والتوحيدي نثراً، عاشها المتنبي وأبو تمام شعراً، عاشتها هيباتيا رموزاً رياضية وعلم فلك، عاشها سارتر فلسفة وجودية، عاشها ماركس أزمة طبقية، عاشتها حنة أرندت تحليلاً للمظلومية، حتى الصعلوك الشهم في كل بلدان الدنيا عاشها بطولة في سبيل الضعفاء من عروة بن الورد حتى روبن هود.

(الميتاكتابة) عبقرية ترى أهداف الناس العاديين مجرد نتائج طبيعية، فالشهرة في عرف (الميتاكتابة) نتيجة ممكنة وليست هدفا، والمجد نتيجة محتملة وليس هدفا، ولهذا فالعاديون مشاهير بلا معنى، ومتمجدون بما هو خارج الذات، أما مجد الذات بلا رافعة خارجية فقد عجزوا عنه، وهم عن (الميتاموقف) أعجز.

محمد الثبيتي مجد ذاتي في (الميتاشعر)، لقد استحال اسمه إلى لازمة تشير إلى عبقرية تدير مهجة الصبح وتستنطق كاهن الحي، لقد وصلت يا محمد الثبيتي إذ أعطيت الشعر كل روحك (قصائدي أينما ينتابني قلقي، ومنزلي حيثما ألقي مفاتيحي)، فأعطاك خلود المعنى في (............) وضع بين القوسين ما شئت من عنوان قصيدة أو شطر بيت.

جواهر لال نهرو مجد ذاتي في (الميتاسياسة)، لقد استحال اسمه إلى لقب فهنيئاً لك نهرو، لقد وصلت إذ أعطيت الهند كل عمرك، تلك الهند المرهقة بمئات الملايين من الفقراء والأميين، فأعطتك خلود التاريخ، في كل لمحة من عدم انحيازك ووعيك العميق في عدم كراهيتك للبريطانيين وشدة كراهيتك للاستعمار البريطاني، في كل قرية فقيرة زرتها بمختلف لغات بلدك ومذاهبهم ومعابدهم المختلفة، كنت للجميع فكان الجميع لك.

من يفعل فعلاً وليس في نيته (صدق المعنى الإنساني) فلن يكون شيئا، حتى ولو أعطوه بحملة علاقات عامة كل الجوائز والأوسمة، يكفينا (توكل كرمان) كحالة حزبية ضيقة مؤدلجة سياسياً عجزت فيها عن التأنسن الحقيقي رغم جائزة نوبل، فمن لم يسعفه طبعه وسماته الشخصية فلن تسعفه التكريمات والأوسمة، ولهذا نقرأ (ابنة سوسلوف) لحبيب عبدالرب كي نرى أبعد من الأحزاب والأيديولوجيا رغم أنف الزنداني وأمثاله.

تطربني إلى نخاع العظم حكاية (الحجَّارين) الثلاثة الذين يعملون في قص الأحجار، سألوا الأول ماذا تعمل؟ فقال وهو مكتئب: أعمل في قطع الأحجار طلباً للرزق لكثرة العيال، وسألوا الثاني: ماذا تعمل؟ فقال وهو متذمر: لا أعرف عملاً سوى قطع الأحجار، وسألوا الثالث: ماذا تعمل؟ فقال بحماس وكبرياء عال: أشارك في بناء قلعة تحمي وطني، ستعيش هذه القلعة بعد إقامتها بهذا الحجر مئات السنين كرمز لجهود أمثالي في بنائها.

الثالث يقطع الأحجار وقد قطع قبلها عروق الأنانية وليس الفردانية، فبالفردانية امتلك قلبه غيرية تتسع لكل الناس، يقطع الأحجار وفي قلبه وعي وعشق وحب وحياة، يقطع الأحجار وفي قلبه وطن، وحدهم الأحرار تتسع قلوبهم لكل هذا، وحدهم يعرفون معنى (الميتافكرة) بالمعنى الخالد لكل عباقرة التاريخ في كل مجال.