بات التململ في القواعد والحواضن الشعبية لميليشيا حزب الله في لبنان واضحا للعيان، ولا يمكن إنكاره، بعد أن كان التصريح أو التلميح حول ذلك محظورا، قد يكلف الاختفاء القسري لمن يقترب مما يمكن أن يوصف بالخط الأحمر. وكما يبدو يقف الحزب عاجزا عن لملمة الشتات الذي تسبب به لفئة كبرى من الشعب اللبناني، بعد أن تعمد تكريس منهجية الارتماء في حضن جمهورية الولي الفقيه، ووضع رموزها بمثابة الأهمية التي يمكن أن يجسدها الإنسان اللبناني، ومقاتلو الحزب وضحايا استراتيجيته الإرهابية، كعماد مغنية وحسن فرحات ومصطفى بدر الدين، ممن ذهبوا ضحية القفز على قضاياهم لمناصرة الجنرال قاسم سليماني في الحرب إلى جانب نظام بشار الأسد في دمشق.

المواطن اللبناني بصرف النظر عن كونه مؤيدا أو معارضا لسياسات ومنهجية الميليشيا، أصبح يستشعر تدني الأهمية الإنسانية والوطنية، بعد أن تعمد الحزب صناعة هالة رمزية حول شخصية قائد فيلق القدس المقبور قاسم سليماني، عبر عدد من المجسمات في الضاحية الجنوبية، وعرض صوره عبر لوحات دعائية على طريق مطار رفيق الحريري، في إشارة إلى الاستكبار الذي يمثله الحزب في مواجهة الدولة اللبنانية التي تقف عاجزة بكل أسف عن ثني الميليشيا عن التعزيز لاستراتيجية طهران التخريبية في الداخل اللبناني.

أعتقد أن الأصوات اللبنانية المحسوبة على «حزب الله» والتي خرجت عن صمتها الأسبوع الماضي منتقدة سياسيات الميليشيا، تعي بالصورة الحتمية أنه كان عليها كسر حاجز الخوف قبل كل شيء، باعتبارها ستواجه فوهة بركان لا يرحم، عبر ما يمكن أن يتسبب لها الحزب من أخطار قد تصل للتصفية، بالسلاح السائب والزعران التابعين له، والذين يمكن أن تطال أعمالهم الإجرامية كل من يمكن أن يعترض على أي شكل من أشكال سياسات الميليشيا الطائفية، وذلك في صورة لا يمكن أن تفسر على أنها انقلاب من قبل بعض من المحسوبين على الحزب وخروج عن سياق القطيع، إنما فتيل اشتعل منذ أن قفز على شكل الدولة، وتجاوز جميع الأعراف السياسية والوطنية، وتسبب ذلك على المدى البعيد بخلق مزيد من التململ والتقهقر في قواعد الحزب الشعبية وحواضنه، التي يعتمد عليها من الناحية الداخلية اللبنانية وفي المحيط العربي في آن واحد.

فالذهنية الوطنية اللبنانية المتزنة، سواء الشيعية أو السنية أو المسيحية وحتى الدرزية، استقرت كما يتضح في المشهد اللبناني على أن الحزب لا يمكنه مواصلة أن يكون تابعا للخارج، من خلال استمرار تبعيته لسياسة الولي الفقيه في طهران، وبناء عليه، فإنه من مصلحة الحزب الذي خرج عن كونه كيانا سياسيا لبنانيا ليتحول إلى مطية بيد الخارج، العودة إلى خلق آلية جديدة للتموضع، قبل أن تتحول الأمور بشكل عكسي عليه وعلى مؤيديه.

وفي هذا الجانب علينا تسمية الأمور بمسمياتها، إذ لا يمكن التغافل عن الجبهة الشيعية التي تضع نفسها في مقابل كل من يعارض سياسة الحزب الداخلية من حيث الاستقواء وتعطيل الدولة، والخارجية من حيث الارتماء تحت سقف سياسة جمهورية الولي الفقيه، وكسرت حالة تقاسم الأدوار السياسية والشعبية في الأوساط اللبنانية، واستحوذت تلك الجبهة على المشهد السياسي، وانقادت إلى الاستكبار على الدولة والمواطن اللبناني، تحت ذريعة الانتماء للحزب الذي لا يعلو على صوته صوت، بما في ذلك الدولة والرئيس والجيش.

أتصور أنه لا مجال أمام الحزب إلا العودة للدولة اللبنانية والتحول إلى حزب سياسي خالص، شريطة التخلي عن السلاح الذي يمتلكه ووضعه ضمن استراتيجية دفاع وطنية تأتمر لأمر الجيش وحده، والعودة عن تكريس مفهوم الانتماء للولي الفقيه واستبدالها بسياسة ومفاهيم وطنية، يكون فيها صوت الوطن هو الأعلى والأكبر، مع ضرورة وضع حد لمن «كبرت رؤوسهم» من شيعة لبنان، جراء تمرسهم على التعالي والتجبر، لمجرد السير في فلك «حزب الله» الذي ينقاد هو الآخر لأمر من طهران، وفق اعترافات الرجل الأول في الميليشيا حسن نصر الله، الذي تفاخر مرارا بأن الحزب بما يملك هو ملك لجمهورية الولي الفقيه، وعودتهم– أي شيعة لبنان– إلى خط المواطنة الحقيقية التي لا يُمكنها أن تحيد لأسباب مذهبية أو طائفية أو حتى سياسية.

أنا على يقين تام أن يوما سيأتي على ميليشيا «حزب الله»، المؤتمرة بأمر الجمهورية الإيرانية، لتتحول إلى ورقة محروقة بيد الولي الفقيه إذا ما طرأ على الجمهورية ما هو أكبر من علاقتها بالحزب الصغير، فالأجواء الملتهبة في المنطقة والتخبط الذي تعيشه طهران نظير التحولات الدراماتيكية في العالم بأسره، ستدفع لأن تصبح الميليشيا أمرا أدنى من ثانوي ضمن اهتمامات دولة تلقت، أخيرا، عدة ضربات موجعة، ولا تزال تئن تحت الحصار السياسي والمالي والشعبي، حينها لن يفيد الحزب عند فوات الأوان، لا صراخ السيد من الضاحية، ولا مجسمات وصور قاسم سليماني، ولن يجدي شيعة لبنان الندم، ولا اللطم، ولا تكبير الرؤوس. وفي قادم الأيام سنرى.