قبل أشهر، أطلق ناشطون عراقيون وسماً على مواقع التواصل الاجتماعي، سموه ريتز بغداد، كناية عن فندق الريتزكارلتون في العاصمة الرياض، الذي شهد إقامة كثير من الأشخاص ممن تلف حولهم شُبه فساد مالي أو إداري ونحو ذلك.

والحقيقة يكمن الفرق في أن الفندق المزعوم في بغداد هو أحد قصور الحكومة العتية «قصر الرحاب» خلال العهد الصدامي البائد، وهو الذي بحسب توجيه من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي تحول إلى شبه موقعٍ زجت حكومته في جنباته ببعض الفاسدين، ما دفع شريحة كبرى من الشارع العراقي إلى وصفه بـ«ريتز بغداد».

اتخاذ التجربة السعودية نموذجاً بالنسبة لي كسعودي، يمنحني شعوراً بالفخر، مقروناً بدعوات التوفيق للحكومة العراقية الحالية. لكني أريد الحديث باقتضاب عن موضوع الفساد الذي تحاربه حكومة الكاظمي، وبعض المنغصات التي تواجهها، وأعود للعلاقة العراقية بمحيطها، التي شهدت خلال أعوام مضت شداً وجذبا، إبان تولي نوري المالكي «رجل إيران» في العراق رئاسة الحكومة.

ثمة بعض العوامل المساندة لحكومة الكاظمي في مواجهة غول الفساد يسبقه وحش الطائفية، أبرزها قدومه من خارج البيت السياسي الشيعي، الذي يُعاني من تصدعات في بعض المواضع، وفي أخرى اختراقات من الجمهورية التي تطل على مشرق شمس العراق. أزعم أن ذلك يمنح الرجل قدرةً على مواجهة مُعضلات الدولة ومخلفات حكومة المالكي ومن تلاه بقوة دون مراعاة لأي أمرٍ ما، كالطائفية والمحسوبيات على سبيل المثال. في دولةٍ كالعراق عانت على مر العصور من حكم الرجل الأوحد والأقوى، الذي يعمد لضبط البلاد بالحديد والنار، انفرط عقد الطائفية بعد سقوط نظام صدام حسين، وتصدرت المشهد وأصبحت محركاً رئيساً للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخلّفت تصدعاً في النسيج العراقي، الذي يتكون من قبائل وعشائر تضرب أصولها في جذور التاريخ، بالإضافة إلى أقليات من مسيح وتركمان وأزيديه، لها ما لها من التاريخ المعاصر. في دولةٍ كالعراق كان صعود نجم «الطائفية» بمثابة الكعكة للقوات الأمريكية التي حكمت العراق مؤقتاً بعد سقوط نظام البعث، لذا لجأ الجنرال ديفيد بيتيروس قائد القوات الأمريكية في العراق آنذاك، استناداً على ذلك، لإنشاء ما كان يسمى بـ«الصحوات»، والتي لقيت تأييداً من البرلمان العراقي، لتتولى استعادة الأمن في الأرجاء العراقية، أو كما يرى البعض للاقتتال نيابةً عن الولايات المتحدة.

كان الباب مفتوحاً على مصراعيه، ولم يستثن مفهوم «الصحوات» أحداً سنةً وشيعة. من هذه النافذة دخلت طهران على الخط للدفع بقوى شيعية تحولت إلى ما يعرف بـ«الحشد الشعبي الشيعي، وحزب الله العراق، وعصائب أهل الحق» الموجودة حتى الآن في المشهد.

كانت الخطوة الإيرانية تقوم على خبثٍ سياسي، الهدف منه مواجهة القوى السنية لتصفية الحسابات مع جمهورية صدام حسين، بالإضافة إلى خلق قواعد شعبية مسلحة تأتمر بأمر الجمهورية الإيرانية في خطوة هدف من خلالها قاسم سليماني للنظر بعيداً، من خلال صنع أداةٍ إيرانية في العراق لتنفيذ أجندة التخريب الإيرانية مجبرةً ليست مخيرة. في دولةٍ كالعراق تعوم على بحار من الطائفية السياسية والاجتماعية، والسلاح السائب، ومنظومة كبرى من الفاسدين على الأصعدة كافة، تبرز رمزية جماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، لتلتف عبر تلك الرمزية على الدولة، وتتمكن من كسرها، استناداً على الشارع العراقي الذي يُعاني من شخصيات سياسية ودينية صنعت لنفسها هالةً كبرى، مستفيدةً من التشرذم الذي لحق بالدولة لمجرد تفكير صدام حسين بغدر دول الخليج، فالأمر تاريخي وليس وليداً للحظة، وربما أكبر من ذلك. بالمناسبة كان صدام يتطلع لوضع يده على دول الخليج عبر حزب البعث، وهذا ربما بحاجة إلى حديثٍ آخر.

في دولةٍ كالعراق عانت ولا تزال من التوغل الإيراني التخريبي، يحتجب صوت الاعتدال «سنياً كان أو شيعيا»، على حساب تصدر لغة التطرف الطائفية التي تقود لانقسام أبناء البلد الواحد، ليس لخدمة المصلحة العامة للدولة وشعبها، بقدر ما هو خدمةً لإذكاء الفتنة وأطراف خارجية معروفة لدى الجميع. في دولةٍ كالعراق خرجت عن السياق السياسي الطبيعي، لا حل لمواجهة وحوش القتل والفساد والمذهبية المقيتة إلا من خلال العودة للمحيط والحضن العربي. فالرغبة على الأقل الخليجية و«السعودية» تحديداً، حاضرة وصادقة في احتواء هذه الدولة التي أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يوماً ما خلال استقباله لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، أن المملكة تضع جميع إمكانياتها وخبراتها في خدمة العراق، الذي تنظر له السعودية بإكبار واحترام، وأن قوته شيءٌ أساسي بالنسبة للمملكة، وتمنى أن يأخذ المكانة التي يستحقها في محيطه العربي والإقليمي.

في حديث ولي العهد أمران هامان، أولهما أن المملكة على استعداد لدفع العراق ودعمه في شتى المجالات سياسياً واقتصادياً للعودة إلى وضعه الطبيعي، وثانيهما يعبر عن الإيمان السعودي بالثقل العراقي المسلوب من قبل ولاية الفقيه، وهذا ما يجب أن يعيه صاحب القرار العراقي. في دولةٍ كالعراق التي تحتضن أعرق القبائل والعشائر، بجذورها المنحدرة من الجزيرة العربية، لا تبحث المملكة عن نفوذ أو موطئ قدام، بل تنمية تلك الدولة دون النظر لذلك الارتباط العرقي بتلك القبائل، فيما تُبرز إيران التي لا مساحة للانتماء لها إلا من خلال المذهبية، باحثةً عن نفوذ يجد بكل أسف تعاطفاً من بعض الشرائح العراقية المؤيدة لإرهاب ولاية الفقيه، الذي يرتكز على الكراهية والعنف والتخريب.

في دولةٍ كالعراق يجب أن يعي القاصي والداني أن تجاوز المرحلة لن يكون إلا بعودة البوصلة إلى وضعها الطبيعي، بناءً على علاقات جيدة مع المملكة العربية السعودية، فالوعي الاجتماعي العراقي بات بنسبةٍ كبرى، يريد العودة للحضن العربي، ويرى في السعودية السبيل والطريق للخلاص من النهج الإيراني المُحتل عبر وكلاء، وتجاوز معضلات كبرى تعاني منها بلاد الرافدين، أبرزها الطائفية على حساب التعايش والجنوح إلى السلم، والاستقرار الاجتماعي على حساب التشظي الطائفي، واستعادة شكل الدولة على حساب جماعات تقود دويلات صغيرة فاسدة بناء على الريال الإيراني.

في دولةٍ كالعراق يتضح انقياد بعض الشرفاء من العراقيين لاتخاذ النموذج السعودي في مواجهة غول الفساد، فكرةً لتحويل مسمى ذاك القصر العتي، إلى ريتز بغداد، أسوةً بريتز الرياض.

القصد أكبر من ذلك حسب فهمي، وأعان الله العراق بشعبه، ومصطفاه الكاظمي، وأبعد عنه نوريه المالكي ومن هم على شاكلته.